لا شيء ذكياً يُقال عن مجزرة

14 يوليو 2023
تركيب فني لـ"رويري أوبراين" يحيي ذكرى رواية "المسلخ رقم 5"، درسدن، (2015/ Getty)
+ الخط -

يكتبُ الروائي الأميركي كورت فونيغوت روايته "المسلخ رقم 5" عن الحرب، بعد أن نجا من الموت، هو شخصيّاً، إذ كان مُعتقلاً في مدينة درسدن الألمانية، حين بدأت قوات الحلفاء تقصف المدينة. مدينةٌ كاملةٌ أحُرقت، تقول الرواية، وألوف مُؤلَّفة من الناس قُتلت. هذه هي صورة الحرب المُعتادة في كلّ الأماكن، وفي كلّ العصور. لا يعرض الروائي لنا هذه الصورة في روايته، بل يختار الجزء الثاني من الصورة، وهي السخرية من حربٍ تُرتكب فيها مثل هذه المجازر، "ثم يُعتقل أحدُ الجنود بتهمة أخذ إبريق شاي، ويُحاكم، ويُعدم بالرصاص".

لا يسمحُ الروائي الأميركي لشخصياته بالتفلسف خارج النص، وفي الغالب فإنّ ميله الأول ينصبُّ على إدانة الحرب، من خلال مسيرة بعض أبطاله الذين شاركوا فيها، وخاصّة شخصية بيلي بيلغريم. يفسح فونيغوت المجال واسعاً للقارئ كي يفكر، ويبحث، ويستنتج، ويمنح الأحداث معناها، وهو موقفٌ يعكس، كما أتصوّر أو أفترض، ثقةً كبيرة بقدرة القارئ على الفهم، وعلى التفسير. وأخطر ما في الرواية، أو هو الأهم في الحقيقة، إنّما هو موقفها من الفرق المُتقاتلة، إذ هي تسخر منهم جميعاً عبر الصور والمجازات التي تصنعُها الأحداث الخيالية التي يبتكرها، أو حوار الشخصيات التي تشاركُ في صناعة الحدث الروائي، بينما هي تقاد قسراً إلى المشاركة في أحداث الواقع.

بعد كلِّ مجزرة يكون كلُّ شيءٍ هادئاً وصامتاً باستثناء الطيور

وفي الرواية استعادةٌ لما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية، حين دمّر الحلفاء مدينة درسدن في ألمانيا. لا تأتي الرواية على ذكر الأسلحة والانفجارات والجيوش، وكيفية إدارة القتال، بل تسخر من هذا كله. ومن يكتب الرواية هو أحد الذين شاركوا في تلك الحرب، كما يفترض في الراوي الذي يقدّم لنا الأحداث.

"إنه كتابٌ قصيرٌ مشوِّش وضبابيٌّ"، يقول الروائي الذي لا يُخفي نفسه، ولا يتردّد في الإعلان عن وجوده داخل النص "لأنّه لا يوجد شيءٌ ذكيٌّ لقولِه حول مجزرة"، إذ بعد كلِّ مجزرة ما، يكون كلُّ شيءٍ هادئاً وصامتاً باستثناء الطيور بالطبع".

يمكن وضع رواية فونيغوت ضمن الأعمال التي تُعيد كتابة الحرب، بعد مضي زمنها بكثير، إنّها تستعيدها كي تدين كلّ الحروب، لا هذه الحرب وحدها، وهي تستعيد ذلك ببنيةٍ فنيةٍ يلعب الزمن فيها دوراً حاسماً، حيث يستطيع أن يحقّق انتقالات واسعةٍ بين زمن الحرب وزمننا، مستعيناً بخيال واسع لا يحدّه أي شيء.

كان فونيغوت قد كتبَ يقولُ في نهاية الفصل الأول من روايته: "لقد أنهيتُ كتابي عن الحرب، وكتابي القادم سيكون فكاهياً. هذا الكتاب فاشلٌ، وكان لا بدَّ أن يكون فاشلاً، فقد كتبه عمود من الملح"، مستعيداً قصة زوجة لوط التي التفتت إلى الخلف على الرغم من التحذيرات، فتحوّلت إلى عمودٍ من الملح. لم يكن الكتاب فاشلاً، وقد حقّق حضوراً قوياً في الوجدان الإنساني. يصرُّ فونيغوت على أننا يجب أن ننظرَ إلى الخلف، فهذا الفعل الإنساني يفترض أنه يحاول التخلّص من الفظاعات والأهوال التي ارتكبت من قبل، آملاً أن لا تتكرر.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون