"لا شيء أسود بالكامل" لعزّة طويل.. القارئ مؤلِّفاً ثانياً

"لا شيء أسود بالكامل" لعزّة طويل.. القارئ مؤلِّفاً ثانياً

19 مايو 2024
عزة طويل
+ الخط -
اظهر الملخص
- "لا شيء أسود بالكامل" لعزة طويل، نوفيلا تتحدى التصنيفات التقليدية بتقديمها كرواية قصيرة تثير التساؤلات حول ماهية النص وتقدم تجربة قرائية فريدة تبدأ بـ"طنين قوي".
- تتبع الرواية حياة عائلة عبر الأجيال في بيروت وحمص، متحركة زمانيًا ومكانيًا بطريقة غير خطية، مما يجعل القارئ شريكًا في عملية الكتابة ويضفي طابعًا تفاعليًا على القراءة.
- عزة طويل تستخدم لغة ذكية وأسلوبًا يجمع بين الأدب والخيال، مقدمة رواية متعددة الأبعاد تتناول الموت، الشقاق العائلي، والحب، داعية القارئ للمشاركة في إعادة تأليف الرواية لتجربة قرائية غنية.

تُسمّي عزّة طويل كتابها "لا شيء أسود بالكامل" (2024)، الصادر عن "دار نوفل" في بيروت، نوفيلا؛ أي رواية قصيرة. هذه التسمية قد تُسعف القراءة، وقد تمهّد للنصوص القصيرة التي تتلاحق في الرواية، لكنّها مع ذلك تطرح مبكراً، وربما قبل القراءة، سؤال ماهية النص.

على الغلاف الأخير تعريفٌ للنصّ بأنّه "ليس رواية تقليدية"، ولن تجازف هذه المؤخّرة بتفسير ماذا تعني بالرواية التقليدية، ولا ماذا تعني بالخروج عليها. ما هو مثال الرواية التقليدية إذاً؟ أظنّ أنّ التسمية لا تنطبق على الروايات الكبيرة البارزة في تاريخ الرواية. ذلك لا يمنع من التساؤل عن طبيعة النمط الروائي الذي في الكتاب، بل إنّنا منذ الفصل الأوّل، وهو لا يزيد عن بضعة أسطر "ستسمع طنيناً ما، طنيناً قوياً، لكنه ضرب طبل ضخم".

من هنا نفهم أنّ الرواية هي هذا الطنين، هي ضربات ذلك الطبل الضخم. لكأنّنا هكذا نبدأ من رواية منتهية، تعود على شكل هذه الضربات. قد لا نعرف إذا كانت هذه الضربات متتالية متسلسلة، إذا كانت كذلك في الزمان والمكان. القراءة الأُولى لا تُوحي بذلك. الطنين متقطّع هنا، وهو لا يتحرّك بانتظام ولا يتسلسل بالتالي، ولا يلزم مكاناً واحداً.

تتيح للقارئ ما يبدو حرّيةً ما في إعادة وصل الأجزاء المبعثرة

نحن عند العائلة نفسها، بأجيالها المتتابعة، الأجداد والآباء وربّما الأحفاد. لكنّنا لا نتبع في استعادتها زمناً أفقياً. نحن هكذا نتحرّك جيئةً وذهاباً، إلى الأمام وإلى الوراء، ومن بيروت إلى حمص، من الولادة إلى الوفاة، من السلم إلى الحرب الأهلية في لبنان وسورية. الراوية قد تكون هي نفسها طوال الوقت، ربما لأنها مفترضة، ولأنّ صوتها هو هو منذ البداية، ومن أجل السياق الروائي، هو صوت واحد. وإذا بدا غائباً فعلينا دائماً أن نفترضه، إلّا حين يدخل على النص صوت آخر، ذلك ما يمكن أن يؤدّي إلى حيرة نستبعدها في افتراض الراوية الأُولى، واستعارة صوتها الأساس.

العائلة، في افتراض أيضاً، واحدة، ولو تداخل الأصل السوري مع الفرع اللبناني. أقول افتراضاً لأنّ الواضح أنّ سمة الرواية، وربما امتيازها، أنّها تتيح للقارئ ما يبدو حرّيةً ما، في إعادة وصل الأجزاء المبعثرة، في جمعها وردّها إلى صورة كبرى مفترضة تبقى ماثلة من وراء التفاصيل، على بُعد ما بينها أحياناً، وعلى تفرّقها، وربّما تبعثرها.

القارئ هكذا مؤلّف مساعد، مؤلّف ثان، فالرواية لا تمثّل إلّا كما يجمعها في ذلك، وقد يبدو هذا باعثاً على شيء من الحيرة. إذ لا ينهض القارئ إلى دور كهذا إلّا بشيء من الجهد، وبنوع من شغل إرادي، يعينه على ذلك ما يمكن أن يسمّيه أسلوباً، أسلوباً بالمعنى الأدبي والخيالي في ذات الوقت.

الصورة
رواية لا شيء أسود بالكامل

نحن هنا أمام كفاءة حقيقية. تكتب عزّة طويل، ليس فقط بلغة ذكية، بنوع من الأدب الذي يضعنا دائماً أمام صور كبرى، واستعارات تشي بالمعنى وما خلفه. الكتابة هكذا هي ما تقرّره، وما توحي به وتفترضه من بعيد، أي أنّ الأسلوب هكذا هو طريقنا لتمثُّل ما خلف النصوص، وما يمكن أن يكون الرواية الأم الكامنة من وراء الفصول والصور والأحداث. هذه الكتابة هي ما فوق حدثية، إذ إنّ الوقائع هنا ذات شقَّين، سرد للواقع وتعالٍ عنه، تسجيل له واستيحاء منه، ونظم له أدبياً إلى درجة تحاذي أحياناً الشعر، ولا أعني بذلك الإنشاء الشعري، وإنما الشعر كروح وكرؤية.

رواية عزّة طويل هي عبارة عن قطع بعدد الفصول (22 فصلاً). كلّ فصل من هذه يملك درجة من التكامل والاستقلال بنفسه، والاكتفاء بذاته. بحيث قد يخطر لنا أنّ رواية طويل هذه، بفصولها تلك، تبدو قريبة، على نحو ما، من أن تكون مجموعة قصص قصيرة. كلّ فصل قائم بنفسه، في الوقت الذي هو موصول بغيره. من شبهات القصّة القصيرة هذه تتكامل الرواية.

هنا نُفكّر ثانية بالقارئ كمؤلّف ثانٍ. مع ذلك نفكّر بجوامع النصوص، هي أيضاً تعمل من ورائها. الفصل الثاني يتكلّم عن جهيض في المرحاض، هذا ما يمكن استعارته كمفتاح للرواية، التي هي، في آن معاً، رواية موت وشقاق عائلي. في آن معاً ليسا فقط مجتمعَين وحاضرَين، لكنّهما أيضاً متناظران متجاوبان. الرواية التي تؤرّخ لميلاد الراوية بمجزرة صبرا وشاتيلاً، تضع المجازر قبالة الحب وقبالة الولادة، وقبالة الحنان الأمومي. إذا شئنا أن نعيد تأليف الرواية، ستكون من هذه العناصر المتناظرة المتكاملة، ستكون هناك حياة قاسية كذلك الجهيض في المرحاض، حياة من حُبّ ينقلب على نفسه، من عائلة تخون ذاتها. يمكن أن نتكلّم هنا عن مرثية، يمكن أن يكون في هذه المرثية شعر الرواية.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون