فائض الوقت

فائض الوقت

18 أكتوبر 2020
هانيبال سروجي/لبنان
+ الخط -

يمكن لواحد مثلي، من جيلي ومن وسطي، أن يشعر اليوم، أمام توالي الأحوال المستجدّة، ليس فقط الوباء ولكن ما يتراكب عليه من الأزمات المعيشية والسياسية، أنه أنهى دوراً من حياته، بل من الحياة كلّها، دخل في دور جديد بل في حياة ثانية، وأنه من الآن حتى زمن غير محسوب، بل زمنٍ، يتصدّى البعض للقول إنه مفتوح وقد لا ينتهي، وعلى الحياة أن تتوقّف عن انتظار نهايته، بل يمكن القول إنَّ الحياة باتت هي الآن، الآن الذي يتكرّر ويتقلّب ويمتد بدون أن ينزل عن الذروة، من دون أن يتحوّل ماضياً أو مستقبلاً، إنه فقط حاضر ثقيل، واقع لا يتوقّف عن أن يعيد نفسه، حاضر فحسب من الشروق إلى المغيب، يُطبق على الناس الحاضرين أبداً، ماثلين له.

يمكن هكذا أن نفكّر بأن الزمن لم يعد وراء الأحداث، لم تعد هذه تملؤه وتغطّيه، لم يعد ميقاتاً لها أو ترقيماً وإحصاءً. ليس بعد كتاباً نقرأه ومقهى نرتاده، شارعاً نمضي فيه وعملاً نؤدّيه وتفاصيل تنتظم وتتوالى، وقصصاً صغيرة أو كبيرة نستودعها إياه. الآن نستيقظ من نوم لا يختلف كثيراً عن اليقظة. انتظرنا ساعات في تعداد للدقائق والثواني، ليس تعداداً في الحقيقة بقدر ما هو مضغ للوقت.

إننا على مقاعدنا، نفعل شيئاً أو أشياء، نشاهد الشاشة ونستوقف مشهداً بعد مشهد، نجلس إلى العشاء، نقلب صفحات كتاب أو نقلّب عباراته. نقبل على هذه الأفعال ونستزيد منها ونردفها بعضاً ببعض. ما يهمّنا من ذلك أن نسلك في الوقت، أن نطرده أو، على الأقل، نواكبه ونحاذيه.

الوقت هو ما يسير معنا إلى المقهى يشاركنا الطاولة فيه

لكن ما يحدث هو أن الوقت هو ما يطفو على الشاشة، هوالذي يسلّم مشهداً لمشهد، هو الذي يغطي على صحون العشاء، بل على اللُقم التي نزدردها. هو الذي يرقد بين كل صفحة وصفحة في الكتاب، بل وبين كل عبارة وعبارة. الوقت هو ما يسير معنا إلى المقهى يشاركنا الطاولة فيه، ما يكون لصق فنجان القهوة وما يمتد على طول الشارع، وما يرجع معنا إلى المنزل يجالسنا، وما يقطع معنا الليل، يصحبنا إلى الفراش ويملأ نومنا، ما يستيقظ معنا، يستقبل يومنا ويطويه أيضاً معنا.

الوقت هكذا هو الحدث الحقيقي، وحده يركب على أفعالنا ووحده يموّههها ووحده فحواها ومعناها، وربما حقيقتها. ما نعيشه الآن هو الوقت وحده. ما نعيشه هو ملاعبة الوقت، بل هو معاناة الوقت. إنه الآن وجهتنا وأفقنا ومستقبلنا. نحن الآن لا نستيقظ بل نحاكي اليقظة، أما الحقيقة فهي أن الوقت هو الذي يمثل لأعيننا حين نفتحها. نحن الآن لا نقرأ بل نقلد القراءة، لا ندري هدفاً لمطالعتنا، سوى أن هذا يتيح للوقت أن يتحرك بين الكلمات. لا نقرأ حقاً، إنها دقائق تسقط من أعيننا وتتحول إلى كلمات. لا نرتاد المقهى بل نفعل كمن يرتاده. لقد فقد ذلك، كما فقد كل شيء، هدفه وسببه. كنا من قبل ذلك نضع ليومنا وأفعالنا غايات، نصدق أن المعرفة غايتنا، نصدق أن المقهى لتسليتنا، أن الشاشة لعبتنا، كل هذا لم يعد لنا. الآن نقرأ لنمضي الوقت فنفاجأ بأن الوقت هو الذي يمضي فينا، وأننا لا نلاعبه بل نمنحه أنفسنا لعبة له، وأنه الآن نمط حياتنا الوحيد بل هو خلاصتها.

هل هو نمط آخر للحياة، أم أنه استفراغ لمعناها، أو وقوفها على معناها الحقيقي. هل هو خروج الوقت من ربقة الأحداث وتحول العيش إلى وقت خالص. إننا الآن نكالم الأصدقاء بواسطة التلفون، نكالمهم وقتاً ثم لا نعود نفعل، لقد كنا هكذا نقلد الاجتماع ونقلد الصحبة، إلى أن أخذنا ننسى ذلك أو ننسى تقليده. نذهب إلى مقهانا القديم لكن لا نقابل هناك أصحابنا القدامى، تدابير الكورونا جعلتنا نعثر على غيرهم، هؤلاء الآخرون هم من زمن الكورونا، زمن الملاجئ، عثرنا عليهم تحت الأرض أو عثرنا عليهم في الانتظار.

إنها حياة الملاجئ، حياة زمن الحروب، وأي حرب هذه، لكنهم يقولون إن لا نهاية لهذا الزمن، إن ثمة موجة ثانية وقد تكون هناك موجات أخرى. الملجأ قد يكون المسكن طوال الأيام القادمة وقد يدوم لبقية الأيام. الحياة قد تتحوّل هكذا إلى انتظار فحسب، لكنها كانت دائماً انتظاراً بدون أن ننتبه، كانت انتظاراً مموهاً بالأحداث والأهداف. كانت هكذا والآن وحدها أمامنا. الحياة بوصفها وقتاً ليست سوى الترقب في الردهة، الاستمرار بدون ما بعد، بدون ما يلي، بدون أي قصة وأي حدث سوى ما يقع على تقليد أحداث وتقليد قصص. الآن تقليد الحياة ليكون هناك فقط هذا الإحصاء السقيم والتعداد الأجوف، هذا المرور الرتيب لفائض الوقت.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية

المساهمون