عدوان غزّة: زوايا النظر في "سقوط أوروبا"

عدوان غزّة: زوايا النظر في "سقوط أوروبا"

22 مارس 2024
من السيمنار (المركز العربي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- سقوط أوروبا يتناول تأثير الاستعمار والعبودية على الفلسفة الأوروبية، مع التركيز على غياب الآخر غير الأوروبي وتأثيرات ذلك على النقد الفلسفي والتاريخي.
- إليزابيث كساب تبرز الفجوة بين النظريات الفلسفية الأوروبية وتطبيقاتها، مستشهدة بالحرب على غزة كمثال على فشل الغرب في الوفاء بقيمه ومعاييره المزدوجة.
- رشيد بوطيب يدعو إلى الانفتاح على التقاليد الفلسفية الغربية مع الحفاظ على نقد ذاتي وتضامن مع القضية الفلسطينية، لفهم أعمق لتحديات المجتمعات العربية والإسلامية.

لا يبدو "سقوط أوروبا" مشهداً وقع مرّة واحدة، فصار مُعطى تاريخياً، كما نؤرّخ لسقوط العواصم تحت احتلال، أو سقوط طبقات حاكمة، ولكنّه مجال تفكير نقديٍّ من داخل الحداثة الأوروبية ومن خارجها، يُقرأ ويُحلل ويتخذ مواقف قد لا تلتقي خلفياتها الفلسفية حول ماهية ما يُنتج في الغرب، الصالح منه لكلّ البشر والمركزي الأوروبي الذي لا يرى سواه.

لذلك كانت إليزابيث كساب، أستاذة الفلسفة في "معهد الدوحة للدراسات العليا" تقرأ في السيمنار الذي عقده أوّل من أمس، الأربعاء، "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تعاطي الفيلسوف الأوروبي مع قضايا الاستعمار الكلاسيكي والعبودية، وقضية فلسطين بوصف الآخر غير الأوروبي غائباً، أو مُغيّباً مع اختزال الأدوات التحليلية في المركز الأوروبي.

وإذا كان غير جديد، كما ستمضي في ورقتها المطروحة للنقاش بعنوان "من الحرب العالمية الثانية إلى حرب غزّة: الفلسفة ولحظات سقوط أوروبا"، فإنها تسأل: لماذا مع الحرب على غزّة لدينا شعور بأنَّ شيئاً جديداً نعيشه، تجاه هذا الغرب الذي نعرف أنّنا غير موجودين في وعيه وأنّه مزدوج المعايير وحيواتنا لا تهمه؟

هذه المرّة، وهي مرة مأساوية فادحة تقع في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة غزّة، ثمّة عنصران جديدان تعاينهما كساب، وهما: المدة الزمنية الطويلة في شهور ستة حتى الآن التي نشهد هذه المقتلة ويصدمنا كيف يستمر هؤلاء الأوروبيون والغربيون عموماً في عدم رؤيتنا؟ والعنصر الثاني يتمثّل في القمع داخل البلدان الغربية، خصوصاً في المؤسسات الأكاديمية، وهي ترى أنَّ خيبة الأمل من خارج أوروبا مردّها إلى أن هذه البلدان تتخلّى عن قيمها تجاه ذاتها، وفي امتحان غزّة يلوح في المشهد سقوط ما تعتبره "مصداقية" أو "سلطة معنوية" لأفكار وقيم لطالما وجدت من يؤمن بها ويشير إلى نموذجها الأوروبي.

امتحان غزّة أسقط  أي "مصداقية" أو "سلطة معنوية" أوروبية

على أن ذلك سيُطرح على لسانها في السيمنار بوصفه مجالاً نقاشياً لأفكارٍ أوّلية ومحاجات تحاور بعضها سؤالاً عن مآلات التفكير في المستقبل دون الوقوع في العدمية التي تنفي الأفكار الليبرالية والحريات والديمقراطية، أو الذهاب إلى تبنّي هذه القيم والأفكار من دون وصاية أوروبية.

وقد سبق هذه الخلاصة مرور الباحثة على محطات تاريخية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حول مفكّرين وكتّاب سياسيّين، من داخل "المركزية الأوروبية" ومن خارجها، تحدّثوا عن القابلية للفاشية التي تنتج في مجتمعات أوروبا ومن نسغها الاجتماعي والاقتصادي، وهذا سيؤدي إلى سقوط أوروبي ذهب ضحيّته عشرات الملايين في حربين سُمِّيتا بالعالمية وهما بالخصوص من داخل أوروبا، ومن الغرب عموماً.

لكن في مواجهة هذا، ثمّة من يرى أنَّ ما فعلته أوروبا من استعمار وعبودية خارج حدودها، والاستقواء ونزع الإنسانية عن بقيّة البشر انعكس على داخل أوروبا وأنتج سقوطها، كما يؤمن عالم الاجتماع الأميركي وليام دو بويز (1868- 1963)، وهو أوّل رجل أسود يتخرّج من "جامعة هارفارد".

ولجأت كساب ضمن مقاربتها إلى نموذج الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي قدّم قراءة "عظيمة" للاستعمار، متضامناً مع حركة الزنوجة ومتبنياً موقفاً داعماً للجزائر ضدّ بلاده. ومما ساقته مقدّمة سارتر لكِتاب فرانز فانون "معذبو الأرض" والتي يستهلها، وفق وصفها بفقرة مدوية "منذ زمن غير بعيد جداً، كان عدد سكان الأرض مليارين، منهم خمسمائة مليون من البشر، ومليار وخمسمائة مليون من السكان الأصليين".

الفاشية التي تُنتج في مجتمعات أوروبا تسبّب في سقوطها

وسارتر الذي دعا إلى تخطّي الزنوج ذاتهم نحو الكونية استفزّ فرانز فانون الذي كتب "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" وفيه دافع عن فكرة تأكيد الذات وأنَّ من "الخيانة" للزنوجة تجاوز الخصوصية والذات، وهما محلّ نضال لانتزاعهما من سيطرة الغرب، كما أشارت.

ومع هذا لفتت كساب إلى ما تطرّق إليه فانون في آخر عمره القصير (1925- 1963) وكيف تفاعل في كتاباته مع فكرة الأفق الذي نناضل فيه للتحرّر الذاتي أم الكوني؟

وفي تعقيبه على ورقة إليزابيث كساب، قال رشيد بوطيب، أستاذ الفلسفة في "معهد الدوحة للدراسات العليا" إننا لا يمكننا التفكير في مأساة غزّة مستقلين عن الكونية وعن الفكر النقدي الغربي، وأكثر من ذلك علينا الانفتاح على التقاليد الفلسفية الغربية التي يعتقد الخطاب الاستغرابي أنّه لم يعد لديها ما تقوله لنا اليوم.

نماذج ممّا عرضه الباحث تتضمّن ما أتى من أفكار عالِم الاجتماع الألماني تيودور أدورنو حول إمكانية أوشفيتز، أو إمكانية المحرقة التي تستمر ما استمرّت الشروط التي أنتجتها، فهو يتحدّث في السياق نفسه عن عمل الإمبريالية في أفريقيا وغيرها. كما استحضر تأكيد ماكس هوركهايمر، عالِم الاجتماع الألماني، على أنَّ من يسكت عن الرأسمالية عليه ألا يتكلّم عن الفاشية.

ونادى بوطيب إلى أن "علينا ألّا نواجه ما يحدث في غزّة عبر خطاب لا يفهمه العالَم أو لا يستسيغه حتّى وإن فهمه". ووفق رؤيته، فإنَّ الخط الغالب داخل الحداثة الغربية وإن كان إلى اليوم "يحرمنا من إنسانيتنا، لكن تقوقعنا في هويات معادية للمُنجز السياسي والحداثي والأخلاقي والقانوني يؤكّد هذا الخروج من الإنسانية ويدعم السياسات الغربية".

أمّا فكرة "سقوط الغرب" فهي بالنسبة إليه انطلقت منذ بداية القرن العشرين، وظلّت على الدوام شعبوية، لأنّها تُغفل قدرة الحداثة المستمرّة على مراجعة نفسها نقديّاً. هذا جعله يخلص أخيراً إلى أنَّ مأساة غزّة يجب أن تدفعنا أكثر للتفكير في السقوط المستمر للعرب، وفي فشل دولة الاستقلال والمشاريع الوطنية والقومية، كما أنَّ القضية الفلسطينية تحتاج إلى تضامنٍ نقدي لا تضامن مُطلق يخشى النقد، على حد تعبيره.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون