سيمون فتّال.. مذكّرات طفلة من آخر الأربعينات (3/2)

سيمون فتّال.. مذكّرات طفلة من آخر الأربعينات (3/2)

05 أكتوبر 2021
سيمون فتّال
+ الخط -

سردُ سيمون فتّال لطفولتها بسيط، فهي تروى الأحداث بشكل تلقائي، مقتضب؛ ترويها كما تعنّ لها، كما تتوارد في الذاكرة. تسترجعها مع وقعها النفسي. تسوق الأحداث مخلصةً لصوتها الداخلي، مستبعدةً تدخّل العقل، كما تسوّي مخلوقاتها الطينية، ممّا يشحن النص بتلك الطاقة المبهمة والحقيقية التي تأتي من عالم الحياة وليس من عالم الأدب. أسلوبٌ يذكّرني بسيرة باتريك موديانو: سرد توثيقي يمتح من السطح؛ ولكنّه السطح الذي هو في الآن نفسه عمقٌ. فنحن ومنذ ظهور فرويد وحديثه عن زلّة اللسان أقلعنا عن الفصل بين ما هو على السطح وما هو في العمق، ذلك أن كثيراً من الألفاظ والحركات التي تصدر عنّا والتي تبدو في ظاهرها شيئاً بسيطاً لها أبعاد وتفسيرات عميقة.

هنا الجزء الثاني من لقاء "العربي الجديد" مع الفنانة السورية.

 

"عزيزي خالد...
البيت الذي كان كلَّ عالمي ما يزال حاضراً... أدخل الشقّة، آه، الممرّ الذي كان يبدو أمامي طويلاً، ورفّ المعاطف مقابل الباب، وعلى يساري غرفة طعام الأطفال وغرفة الخادمات ثم المطبخ. وأمضي يميناً إلى غرفة الجلوس المتّسعة. صوفا بزاوية مغطّاة بالكامل بالسجّاد. كما غُطّيت الجدران والأريكتان بالسجاد أيضاً. أريكة صغيرة وأخرى بمسند مرتفع بشكل غير متناسب. هناك كان يجلس أبي كلّ يوم مسنداً ظهره يروي قصصه وحكاياه. كان حقّاً حكواتياً يتمتّع بموهبة هائلة، بل روائياً كوميدياً. يروي النوادر والقصص الطريفة. وما تزال الناس تردّد طُرَفه ونكاته حتى اليوم.

وسط قاعة المعيشة ثمّة ستارة كبيرة من القماش الأبيض تفصل الصالون عن قاعة الطعام. تُسدل هذه الستارة عندما يكون هناك ضيوف على العشاء. لكن ما عدا ذلك تظلّ مفتوحة. أحببت هذه الستارة، إذ عندما تكون مسدلةً تضفي على المنزل جوّاً ملغزاً، وفوق كلّ شيء تخلق إحساساً بالتوقّعات السعيدة. وهناك الغراموفون الكبير ببوقه النحاسي الضخم في غرفة الطعام. لقد أحبّ والدي الموسيقى، فكان وبمجرّد عودته من المكتب يشغّل الجهاز، وتصدح أغاني ذاك الزمان ــ أواخر الأربعينيات ــ في أجواء البيت. آه! لتلك الأسطوانات السوداء الكبيرة... أتذكّره يرقّصني فوق الطاولة، أنا الطفلة الصغيرة... أراه جالساً على طاولة غرفة الطعام حيث كنت أقوم فيما بعد بواجباتي المدرسية وأراجع دروسي.

يعودني أثاث غرفة الطعام الضخم الذي كانت قد استوردته أمي من مصر على أيام الملك فاروق، كما كانت الجدران مغطّاة بالسجّاد. كان هناك قبل كل شيء خزانة صغيرة جميلة جداً صحبتني إلى باريس، هي الآن في غرفة نومي، وكذلك سجادة غرفة المعيشة هي أيضاً في شقتي في باريس. أودتُ من ذكر كل هذه التفاصيل ــ التي من بينها الستارة ــ إبراز التمايز الكبير في بيوتنا بين الداخل والخارج، بين البرّاني والجوّاني. كما في البيوت العربية التقليدية. لقد نقل أبي وأمي هذا التقليد معهما إلى الحيّ الجديد. كنا نحن الأطفال نعلم جيداً أنه لا أحد من الزوار يمكنه عبور الباب الذي يفصل غرفة المعيشة عن غرف النوم. هناك الممرّ المؤدّي إلى غرف النوم الثلاث... ما أزال أسمع صرير الدرج الخشبي المؤدّي إلى الطابق العلوي، حيث توجد غرف أخرى وحمّام وحوض استحمام ودوش، كما هو الحال في المنازل الحديثة.

من هذا التفصيل الذي أسوقه أريد أن أقول أن عمارة البيت حديثة ولكنّ نمط العيش الدمشقي العريق استمرّ. فنحن مثلاً لم نكن نستحمّ في البانيو، كنا نجلس جنب البانيو، كما في الحمّامات الدمشقية القديمة. لقد احتفظت والدتي بالطرق القديمة هذه. وهذا يعني أننا لم نستحم في البانيو أو الدوش ولكن كنا نجلس على كرسي خشبي وتملأ أمي الحوض بالماء وتسكبه على رأسي أو جسدي كما هو الحال في الحمّام العربي.

تم تأجير الطابقين الأول والثاني من بنايتنا ليكونا مقرّاً لوزارة الخارجية السورية 

كان من الرائع في ذلك الزمان تلك الحياة المنفصلة عن والدينا. في الطفولة المبكّرة كنّا بين أيدي المربّيات، وفيما بعد استمرّت المسافة بيننا وبين والدينا. نادراً ما كان أبي وأمي يصعدان إلى الطابق العلوي، وخاصّة والدي. لقد جاء إلى غرفتي فقط عندما أصبت باليرقان. وحتى أثناء المرض صعد مرة واحدة. عندما كنا صغاراً مررنا بمرحلة غمرنا فيها إحساس كبير بالحرية. بيد أن هذه الحرية لم تدم طويلاً. إذ ما لبثت أن تلاشت كل تلك السعادة عندما ذهبت إلى المدرسة الداخلية في بيروت وأنا في سن الحادية عشرة...

أما دمشق، فقد كانت في طفولتي، آخر الأربعينات، مدينةً صغيرة شديدة الهدوء. لا تكاد توجد فيها حركة سيارات، بما أن السيارات كانت نادرة. كان بإمكاننا في تلك الأيام مشاهدة قاسيون من شرفتنا... أمام بيتنا كانت هناك بناية أكثر ارتفاعاً من بيتنا، وكانت تعيش في الطابق الأرضي لتلك البناية عائلة ... أتذكر الأم ليديا الـ... امرأة جميلة جداً، طويلة، وتتحدّث بصوت صارخ، في حين كان زوجها قصير القامة. لليديا ولدان، أحدهما كان أخي في الرضاعة. سألت أمي قبل سنوات قليلة من وفاتها، كيف عهدت لها هذه السيدة بطفلها لإرضاعه؟ أخبرتني أن ليديا اضطرّت لسفر طويل وهكذا عهدت بابنها لوالدتي!! لم يكن أيّامها للأمهات هذا الالتصاق القوي بالأبناء الذي نشهده اليوم. كنت منتشية بالكثير من الحرية المتاحة فيما بيننا، ليس كما هو الشأن اليوم؛ وهكذا! تبادلنا نحن الصغار خبراً أن لليديا عشّاقاً. حتى في تلك السن فهمت بشكل غامض ما يعنيه ذلك...

الصورة
سيمون فتّال وخالد النجّار في قرية إيركي بإقليم بروتاني الفرنسي (العربي الجديد)
سيمون فتّال وخالد النجّار في قرية إيركي بإقليم بروتاني الفرنسي (العربي الجديد)

كنا نحبّ المصيف في بلودان، وهي بلدة، منتجع في الجبال غير بعيدة عن دمشق، آه لتلك الأصياف في "الغراند هوتيل"، وهو فندق بلودان الكبير... في هذا الفندق تملّكني ذات يوم هاجس الافتراق عن العائلة، والفرار بعيداً. عبرت الشارع الكبير الذي تمر منه السيارات خلف الفندق ولكن الطبّاخة ماريا ــ التي كانت في الوقت نفسه مربّيتي ــ لمحتني ولحقت بي وأعادتني إلى الفندق. أخبرتني ماريا أيضاً أنني كنت أقول لها طوال الوقت: ماريا، ماريا، أنو فتّان؟ (يعني: أي فستان؟)، حتى في الثالثة من عمري أردت معرفة أي الفساتين سأرتدي. أجل كنت يقظة مبكّراً وأنا في الثالثة من عمري.

عندما كنا صغاراً مررنا بمرحلة غمرنا فيها إحساس كبير بالحرية

في دمشق، كانت لنا نزهتان: واحدة في اتجاه دمّر؛ فكنا نمضي بالسيارة لزيارة تلك الحديقة المليئة بالطواويس الكبيرة. نقف هناك منتظرين أن يفتح الطاووس ذيله على اتّساعه. والنزهة الأخرى على الطريق المعاكس، طريق حلب. كانت السيارة تنساب بنا حتى آخر العمران ثم تتوقف وننزل. كان هناك جدول ماء ينساب على جانب الطريق ومن الناحية الأخرى ترتفع بنايتان: واحدة مستعمرة للجذام، والثانية بيمارستان للمجانين. هناك تنتهي جولتنا. كانت هذه النزهات الحزينة تتم أثناء سفر والدينا، عندما نكون في رعاية عمّتي روز وخالتي إيفون اللتين كانتا تتناوبان الاعتناء بنا.

كان أبي وأمي يسافران إلى أوروبا في رحلات عمل تطول إلى ثلاثة أشهر متتالية، أو شهرين على الأقلّ. أتذكّر أروع تلك النزهات عندما كنا نزور بيوت الأصدقاء القليلة التي بها حدائق في دمّر أو الغوطة، أو حين نذهب مع جدي إلى حديقته التي تُسمّى بستان الليل، كانت هناك أبقار، وبعد الظهر وحوالي الساعة الرابعة نتناول الخسّ مغموساً في دبس السكر.

ذات يوم عدت من المدرسة بصوتي الذي لدي الآن، صوت عميق جداً لبنت صغيرة. لم يتوصل أي طبيب لمعرفة أسباب هذا التحوّل. لذلك تمّ إسكاتي. علّقوا لي دفتر ملاحظات أسود صغير في حزامي وكان عليّ أن أكتب ما أريد قوله. تردّدت على طبيب في الحي القديم، كانت لديه آلة صفراء ضخمة تضخ الأكسجين، حتى أستطيع أن أتنفسها. هذه الجلسات لم تسفر عن شيء. لكن في هذه الأثناء منعت من أكل الآيس كريم أيضاً...

في تلك الأيام وقبل وقت طويل من تأجير الطابق الأرضي لتلك العائلة الإنكليزية، تم تأجير الطابقين الأول والثاني من بنايتنا ليكونا مقرّاً لوزارة الخارجية السورية. في عام 1945. في تلك الفترة أصرّت فرنسا على عدم إنهاء الانتداب، كما وعد الجنرال كاترو. فحمل السوريون السلاح ضدّ الفرنسيين. كان منزلنا محاطًا بثلاثة مراكز فرنسية، وهي مكاتب البعثة الفرنسية والقنصلية ومدرسة الإرسالية الدينية ــ الفرنسيسكان، والتي كان الجيش الفرنسي قد استغلّها أيضاً. فكانت المواقع الثلاثة تُطلق النار على وزارة الخارجية، أي على بنايتنا. تحصّنّا أيّامها بالممرّ المؤدّي إلى غرف النوم، نمنا هناك وهو المكان الوحيد المحمي بجدارين. أحياناً كنا ننزل إلى القبو. رفض والدي تماماً النزول إلى القبو. كانت أمي تطبخ للجنود الذين يقاتلون في الطوابق الأولى والذين كانوا عالقين هناك، وتحمل لهم ولنا في القبو أواني الرزّ بالفول.

كان بإمكاننا في تلك الأيام مشاهدة قاسيون من شرفتنا

أحياناً كانت الحياة تمرّ طبيعية أثناء النهار، وفي ذلك اليوم ذهبنا إلى النادي للعب. كان "نادي الشرق" يقع على بعد خطوات من البيت؛ فإذا بإطلاق النار يُستأنف فجأة. في غمرة الاضطراب أسرع والدي إلى شرفة المطبخ لينادي على السائق ويطلب منه الذهاب لإحضارنا من النادي، في تلك اللحظة نزلت قذيفة على المنزل واخترقته. تصاعد دخان كثيف من المطبخ وانتشر في جميع أنحاء البيت. صرخت أمي: راح زوجي. ولكن لم يحصل له شيء! وعندما رأته أمي ينبعث من جديد من عمود الدخان، اعتبرته للحظات طويلة شبحاً. وهكذا وبعد هذه الحادثة قرّرت أمي أن تطلب من الراهبات الفرنسيسكان اصطحابنا إلى بيوتهنّ في المدرسة - فقد كنّا مسجّلين هناك كتلاميذ –فالراهبات لا يؤوين الرجال. ولكنهن آوين العساكر الفرنسيين!

استمرّت المعارك لفترة طويلة وانتهت بالاستقلال. في عام 45، كان عمري 3 سنوات، لكنّ كلّ هذه المشاعر عشتها وأتذكّرها بوضوح. فقد تمّ إغلاق المدارس الفرنسية لفترة طويلة. ورأت والدتي أنه من المناسب إرسال بناتها الصغيرات إلى مدارس التبشير الفرنسية في بيروت، مدارس التبشير هذه كانت في واقع الأمر سجوناً... (المفارقة أنهم يبشّرون بالمسيحية في بلد شهد ولادة المسيحية وولادة آباء الكنيسة !) كانت هذه المدارس مدعومة من سورية، أي أن الحكومة السورية هي التي كانت تساهم في تمويلها! ولكوني صغيرة السنّ، فلم يكن في الوسع إرسالي إلى بيروت، وهكذا سجّلتني أمي في مدرسة تديرها سيدة فلسطينية تُدعى مدام فروجي. 

بعد سنوات، أخبرتني هذه السيدة، التي كانت تزور والدتي باستمرار، أنني كنت من أذكى الطلاب في منزلها. كانت تلك هي المجاملة الأولى والوحيدة التي تلقيّتها على الإطلاق، كانت فروجي تشجّع المواهب والأطفال النجباء عموماً؛ بينما قلّلت المدارس الفرنسية من شأن أفضل الطلّاب. كنت دائماً الأولى في الصف، من القسم السادس إلى البكالوريا، ولكن في اليوم السابق لإعلان النتائج في الحفل الذي يُقام عادة في فناء المدرسة، تمّت دعوتي لإدانتي وتوبيخي واتّهامي بالسلوك السيئ، حتى لا أستطيع في اليوم التالي تذوّق السعادة بنتائجي الجيّدة...".

المساهمون