زعيم نصّار في "ماء غريب": قصائد قريبة من نهر الغرّاف

بعد ثماني سنوات من إصداره مجموعته الشعرية الأولى، "الحياة في غلطتها"، يعود الشاعر العراقي زعيم نصّار بمجموعة شعرية تحمل عنوان "ماء غريب" (دار "أكاد"، بغداد، 2022). ينتمي نصّار (1960) إلى جيل الثمانينيات في الشعر العراقي، وهو جيلٌ مكتظٌّ وخصب، شمل تجارب نوعية رسّختْ وجود قصيدة النثر التي كانت كِتابتُها تُعتبر فِعل معارضة وتمرّد. قطف جيل الثمانينيات ثمار صراعات التجديد التي خاضها شعراء عقدي الستينيات والسبعينيات، حتى انعتق من سلطة التقاليد الكلاسيكية، مندفعاً إلى التجريب والتجديد. كما أن تجارب شعرائه حملت سماتٍ نصّية فرضتها أهوال الحرب وآثارها، ولذلك يبقى هذا الجيل في الشعر العراقي مثارَ جدل ونقاش دائمين.

ورغم أن زعيم نصّار قد بدأ بنشر قصائده في الصحف والمجلّات العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلّا أن كتابه الأوّل لن يرى النور إلّا في عام 2015، حيث التزم الشاعر بموقفه في مقاطعة النشر في المؤسّسات الحكومية وعدم انخراطه في الجو الثقافي المؤدلج الذي رسّخه حزب "البعث" حتى خروجه من السلطة عام 2003، كما سبق للشاعر أن قال في أحد حواراته.

يلبّي الشاعر في مجموعته الجديدة نداء الطفل الأهواري الذي كانه، فقد قضى سنوات طفولته وصباه في جوار أهوار مدينة الناصرية جنوبي العراق، يقرأ ويكتب ويكتشف أسرار تلك الجنائن المائية، متتبّعاً سؤال الذات الذي يبرز في أكثر من قصيدة، دونما فرض إجابة يقينية لا يحتاجها النص. فهو يريد من السؤال لحظتَه الشعرية فقط وما تستدعيه من خيالات الطفولة وعالمها المليء بالاكتشاف، ليشيّد بذلك عالماً شعرياً سحرياً يمتدّ من الحكايات التي سقتْه إيّاها أمّه مع "ماء غريب" كان يجعل نومه ممكناً في ليالي الألم.

يرصد في قصائده تمكُّن الجفاف من الأهوار التي كانت جنّته

يفتح لنا نصّار باب هذا العالم من القصيدة الأولى، ويأخذنا في رحلة يشتبك فيها الواقعي مع السحري في رسم صورة الشاعر، ويورّطنا معه في البحث عن هويته الغامضة ومنابع تكوينها، التي تتنوّع بين حضن الأمومة وحضن النهر، وهو نهر الغرّاف الذي يظهرلاحقاً في قصائد أُخرى بشخصية الصديق الحكيم والدليل الملهم:

"وفي ليالٍ أُخرى تتكرّر أحلامي
في الواقع ولا أسطورة هناك 
أنا والطارق والملاك والقارئ والآخر الذي يكتب والراوي،
كنّا نسأل سؤالاً واحداً: مَن منّا زعيم نصّار؟".

تدور قصائد المجموعة في عالم أهواريّ هو بيئة لذكاء الطفولة وبراءتها، وتتكوّن أبعاد هذا العالم من ظلال القصب وضفاف الأنهار وأغصان الشجر. بالمحصّلة، هو مسرحٌ طبيعي لطفل يلعب ويسأل ويفكّر، يختبر بواكير مشاعره، بدءاً من رجفة الحُبّ واكتشاف المرأة وليس انتهاءً بالحذر والترقّب وهاجس الخطر الذي تسبّبه عيون المخبرين وخطوات الوشاة. يقدّم الشاعر صورة مركّبة للهور الذي هو جنّة الطفل في أحضان أمّه وجحيم الشاب في أحضان ثورته:

"فوق مياه الهور،
تفوح رائحة السمك،
أتصبّب عرقاً،
وقد اشتدّ ساعدي، 
أتمسّك بالفالة،
الماء تحتي كالزجاج، 
وعلى الصارية 
فوق رأسي
سراجٌ يضيء الأعماق".

الشعر، كما أحبّ أن أعرّفه، شهادة، والشاعر شاهدٌ على الجمال والمأساة. مصداق هذا التعريف حاضرٌ هنا، حيث يرصد الشاعر كارثة العطش ويوثّق لمأساة الهور بعد أن تغنّى بروعة جماله. يتحوّل حلم الشاعر إلى كابوس حين تحاصره فكرة زوال فردوسه الأرضي جرّاء الجفاف الذي تعدّدت أسبابه. يأسى نصّار لماضي جنّته ويرثي حالها الراهن، معتمداً بذلك على نسقَيْن يمكن ملاحظتهما. الأوّل، نسقٌ عرفاني غير بعيد عن اشتغالات الشاعر في تحقيق التراث، يظهر بشكل صريح في قصيدة "حكاية الليلة البيضاء" التي يبنيها على أساس الغرائبية العرفانية وأجوائها، وربما في ذلك انصرافٌ لمناجاة قوى غيبية كما ينصرف إليها الإنسان الأهواريّ المنكوب، لتكون القصيدة لحظة اشتباك بين الحلم والواقع والوهم. "أنا الوحيد الذي بقيتُ أخرج لرحلةِ صيد بلا سراج ولا فالة ولا زورق ولا شِباك سوى أن أتبع نجمة قلبي كالأعمى سوى أنّني أروي كنايات الوهم، لدرجة أني أتذكر كلّ يوم رأسي بين يديّ وهو مقطوع من غير علمي بقطعه".

أمّا النسق الثاني، فهو سؤال الهوية والجذر التاريخي، فجنّة عدن الآفلة هي استعارة للهوية الضائعة، نعمة الإرث التي استحالت نقمة لا تجلب سوى المصائب، ولعنة الحمولة التاريخية التي صارت لعنة أهلكت الحاضر وسوّته جثّةً هامدة. يتّضح هذا النسق الميثولوجي بدءاً من المفتتح الذي اقتبسه الشاعر من ملحمة "كلكامش" على لسان إنكيدو وهو يخاطب الباب، ويمتدّ لقصائد أخرى في المجموعة، وهي قصائد ممهورة بأمثالٍ سومرية وعناوين من ضمن هذا المناخ، مثل "شاعر من لارسا، كانوش كادرو". هكذا يلتقي النسقان، العرفاني والميثولوجي، في قصائد المجموعة، والجامع بينهما هو استعادات الذاكرة القادمة من الطفولة محمّلةً بالانفعالات العاطفية والأسئلة التي لا تنتهي.

الصورة

لا يستغني الشاعر عن صوته الخاص بعد ما يقرب العقد على كتابه الأوّل. ويتضمّن أسلوبه ما تضمّنتْه القصيدة الثمانينية من خصائص، حيث امتازت الكثير من قصائد المجموعة بمعمارها اللغوي غير البسيط، وسِعة قماشة موضوعاتها، إضافة إلى اعتماده "جملة التواتر" التي تعتبر الخاصّية الأبرز للقصيدة الثمانينية، حيث تتواتر جمل القصيدة بعطوف ونعوت وأوصاف شارحة، تحاول خلق علاقات جديدة بين الكلمات ودلالاتها. في الوقت ذاته، يظهر سعي الشاعر إلى تجنّب الانغلاق على تجربته ومحاولة بثّ روح مختلفة تحاول استيعاب التغيير الحاصل على جميع الأصعدة، الخارجية والداخلية، بالنسبة إلى الشاعر ومحيطه. ويظهر ذلك في تقديم نموذج غيرمتطرّف لقناعاته، كما لا يخجل من الإفصاح عن احتمالية خطئها وصوابها. وينجح هذا السعي بالوصول إلى قصائد مكثّفة ومختزلة تتجرّد ممّا يثقلها من بلاغات وحلي لغوية، لتظهر في النهاية كحقيقة عارية لها حَدٌّ جارح وصادم من جهة، وحَدٌّ آخر ساخر ينطوي على انكسار وأسى، من جهة أُخرى:

"أطلقتُ كلّ رصاص الحكمة
الذي في ذخيرتي،
فَلَم أقتلْ سوى وقتي.
يبدو أنّي كنتُ أتسلّى بقتل الوقت".

* شاعر من العراق

كتب

التحديثات الحية

"يوميات قلعة المنفى": عبد اللطيف اللَّعبي في رحلته إلى الحرية