ينطبق على تاريخِ بيروتَ العمرانيِّ سؤالُ "متى لم تشهد المدينة نشاطاً ترميميّاً؟" أكثر من سؤال "متى شَهدت ذلك؟". بهذا المستوى من الحضورِ البَدَهيِّ الثّقيل، يمكنُ أنْ نستقرِئَ حركةَ التَّرميم بعد انفجار المرفأ (4 آب/ أغسطس 2020)، في محاولةٍ لربطِ الحدَثِ الرَّاهن بإرثِه الثقافيّ المديد في الخمسين سنة الماضية.
منذُ الأسبوع الأوّل بعد الانفجار، تسيّدتِ المشهدَ المبادراتُ المحلّية وغير الحكوميّة، من أجل حفظِ تاريخ وذاكرة المدينة، مُعفِيةً المعنيّين الحكوميّين من مسؤوليّاتهم. وهذا يروقُ للأخِيرين، لأنّهُ - هنا فقط - تتلاشَى الحساسيّةُ والتّوتّرُ بين مؤسّساتِ الدّولةِ والمنظّماتِ غيرِ الحكومية. حيثُ يتعلّقُ الأمرُ بمسؤوليّة ثقافيّة كُبرى، وليس بخطفِ نقاطٍ سياسيّة أو كسبِ جمهور. لكنّ الأيامَ كشفت عن عقباتِ لوجستيّةٍ متنوّعة، فرضَتْ حالةً سمّتها الباحثةُ سينتيا بو عون بـ"فوضى التّرميم"، وذلك في مقالٍ عَنونَته "كي لا تتكرّرَ سوليدير ثانيةً"، نشرَه موقع "المُفكّرة القانونيّة" بعد عشرة أيَّام من وقوع الكارثة.
يُحيلُ النّظرُ في دعواتِ التّرميم القائمة إلى تقاطُعٍ لها مع التّاريخ القريب، أثناء الحرب الأهلية (1975- 1990)، كما يُنبّهُ إلى ذلك المُفكّرُ المِعمارُ رهيف فياض. أهمُّها الحدثُ التّرميميُّ المرجعيُّ، المُتمثّلُ باللّجنة التي تأسّست عام 1977 وأخذتْ على عاتقها ترميمَ منطقة وسط بيروت، وما نالتْ منه "حربُ السَّنتين". إذ يبقى ذلك الحدثُ مفصليَّاً في وعيِ التّرميم، وجدليّته مع الحروب ومآسيها. وبغضِّ النّظر إنْ كان القائمون على تلك اللّجنة، يظنُّون أنّ الحربَ قد انتهتْ أم لا، بيدَ أنّ الخطابَ في ذاته لم يكنْ أحدٌ ليُشكّكَ فيه، أو يقولَ عنه إنّه نِيّةٌ في غير أوانِها. عليهِ مضتِ اللّجنةُ قُدُماً، وأصدرتْ قرارَها في ربيع 1978، مُكرّسةً دورَ القطاع العام من خلال إسنادِ التّنفيذِ إلى وزارة الأشغال العامّة وبلديّة بيروت. بمعنى أنّ مفهومَ التّرميم حضرَ كمحاولات أولى وجدّية لتلافي أثر الحرب حتّى وهي مشتعلة. لكنْ لماذا تلاشى هذا المفهومُ بعد الحرب؟ وما الذي حلّ محلّه؟
فوضى الترميم بعد الانفجار تذكّر بما فعلته شركة "سوليدير"
مضتِ السّنوات، ولم تتوقّفِ الحربُ إلّا مع بداية عقد التّسعينيّات. لذا، تخلّقتْ على أرضيّة هذا الامتدادِ الزّمني الطّويل، مظاهرُ مختلفةٌ من الاشتداد العسكري. أفجعُها اجتياح الاحتلال الإسرائيليّ العسكريّ عام 1982. وما كادَتِ الحربُ تنتهي، حتّى ضربتْ أقدارُ السِّياسة موعداً للمدينة مع اجتياحٍ آخر. إذ تراجعتِ الدّباباتُ، والمليشياتُ الطائفية المتقاتلة، مُفسِحةً المجالَ لشركاتِ ما سُمّيَ بـ"إعادة الإعمار". بتحييدٍ مُطلقٍ لدورِ القطاع العامِّ بحجّةِ أنّه ضعيفٌ مُدمَّرٌ، وحانَ الوقتُ لتجريبِ القِطاع الخاصّ.
سيطبعُ مفهومُ إعادة الإعمار تعاطيَ الحقبة النيوليبرالية مع العِمارة، المُتميّزة بعدم مراعاتِها خصوصياتِ المكان ثقافيّاً. وسَتُنفَخُ فيه الرّوحُ عند كلِّ غزو، كما العراق مطالع الألفيّة، وبعد كلِّ حرب، كما سورية اليوم. سوى ذلك، تتكثّفُ في الطّبعة اللّبنانية أسبقيةُ الاعتمادِ على ترسيمة رجلِ الأعمال - وزيراً، أو رئيساً للوزراء. رجل الأعمال الذي سيأتي باستراتيجيات جديدة، قوامُها الرّدم والاصطناع، وبرساميل ضخمة وُصِفَت بـ"الإنقاذيّة". عند هذا الحد سيبدأ زمن الشّركة الخاصة، وستنهضُ "سوليدير" (الشّركة اللّبنانية لإعادة إعمار وسط بيروت) بوصفها الأداة التنفيذيّة لتلك الاستراتيجيّات.
لم يأتِ حضورُ شركة "سوليدير" بعد الحرب (1994)، ولا حضور مؤسِّسها الرَّاحل رفيق الحريري رئيساً للوزراء قبل ذلك بعامين، نتيجة صدفةٍ أو توافقاتٍ سياسيّة أقرّها مؤتمر الطّائف فحسب. فلو عُدنا قليلاً إلى الفترة التي تلتْ انتخابَ أمين الجميّل رئيساً للبلاد (1983)، سنضعُ اليدَ على الظّهور الأوّل لرجلِ الأعمال رفيق الحريري. ذلك بمشروعه الخاصّ "مُخطّط أوجيه"، الذي عملَ فيه على إزالةِ رُكام الحرب من بيروت وضواحيها، والتّطلّعِ صوبَ إعادة المركزيّة إلى مدينة مُمزَّقة حينها، وغير قادرة على استعادة أهميّتها من أيدي أسواق تجاريّة محلّية تنامت في ظلّ الانقسامات المناطقية.
صحيحٌ أنّ المشروعَ سرعانَ ما توقّف بفعل الحرب. بيدَ أنّ استئنافَه، بعد عشر سنوات، إبّان الدّخول في ما سُمّي بزمن الطّفرة الماليّة والاستقرار، أخذ طابعاً مُختلفاً. اتُّجِهَ فيه إلى تحويلِ وسط بيروت إلى مركز أعمال وليس وسطاً تجاريّاً، ومن ثمّ تلزيم "سوليدير" بقرابة 1.8 مليون متر مربّع. لم تستثمرها الشّركة إلّا في تحويل وسط المدينة إلى "حدائقَ مُعلّقةٍ"، من الأبراج والمولات المتوافقة مع منظومة اقتصاد الخدمات، وسدّ المنافذ على وصول عامّة النّاس إلى بحرهم، متنفّسهم الوحيد. وترجمةُ هذا سياسيّاً تعني تدميرَ الحقِّ بالسّيادةِ الشّعبيّةِ على المكان، وهندَستِه ليخدمَ سياسات السّلطة والطّبقة فحسب.
مرّة أخرى تمضي السُّنوات، وبين عقد التّسعينيّات واليوم، ها نحنُ نُعاينُ "سوليدير" والمرفأ اللذين يقعان في منطقةٍ واحدة، ونعاينُ ما خلّفتهُ الاستراتيجيّاتُ المعتمَدةُ من: ردْم البَحر وابتداع شواطئ اصطناعيّة، وخلق مساحاتٍ شاسِعة من الفراغ، تطردُ أكثر ممّا تجذب. والدّعاية التي روَّجتها الشّركة عن نفسها حول جذب الاستثمارات، لم تؤدِّ سوى إلى السَّطو على أصحاب الحقوق. فاندثرتِ الأسواق التقليديّة القديمة لصالح الأبراج والمولات. في وقتٍ تبدو المدينةُ بأمسِّ الحاجة إلى ساحة وطنيّة جامعة.
استراتيجيات تتعمّد ردْم البحر وابتداع شواطئ اصطناعيّة
هذا ما لوحظ في احتجاجات خريف 2019. فالفراغ النابذ الذي صمّمتهُ "سوليدير" ملأتهُ أصواتُ المُحتجّين. ألا يُذكّرُ هذا بمصطلح "الحقّ في المدينة" والحاجة إليه؟ ذلك المصطلح الذي يشتغل عليه اليوم الجغرافي الأميركي ديفيد هارفي، مستلهماً الخطاب الحقوقي والسّياسي لحركات "احتلّوا وول ستريت"، التي شهدتها مدنٌ أميركيّة خلال العقد الماضي.
بموازاة ذلك، ظهرتِ بعد الحرب التّجمعاتُ السّكنية الامتدادية خارج بيروت، وبدأت تُحيط بالمدينة. تجمّعات مُسوّرة من غير أسوار، بتعبير الكاتب مات ناش (Matt Nash).
وبالمثل يبدو واقعُ المدينة بعد كارثة المرفأ غامضاً. فمن جهةٍ تتبنّى المنظّماتُ الفاعلة على الأرض، حكوميّة وغير حكوميّة، التّرميمَ بما يُعانيه من فوضى. ومن جهة ثانية، ما زالت استراتيجية الرّدم مُعتمَدةً من قبل القوى الأوليغارشيّة. إذ أطلَّتْ مؤخّراً الاستثماراتُ الأجنبية برأسِها، كشركتي "هامبورغ بورت" و"كوليرز". طرحتِ الشركتان في نيسان/إبريل 2021 مشروع مدينة صغيرة، وأبنيةٍ تُوصَفُ بـ"الخضراء"، على أرضيَّة الواجهة البحرية المدمّرة بين سوليدير والمرفأ. وبذات الاستراتيجيات القديمة: ردمٌ واختلاقُ شَواطئَ مُصطَنعةٍ. مشاريع تجارية تُجسّدُ أشباح الماضي التي عادت لتتربّصَ بالتراث والثّقافة، وتستثمرَ فيهما بِمُدّة زمنية غير واضحة. وكأنّ كوارث هذه المدينة لا يعقبُها خلاص، بل أقدار ثقيلة ومفاهيم عاجزة.