رحيل أنس دوراكوفيتش.. الثقافة في زمن الحصار والقصف

رحيل أنس دوراكوفيتش.. الثقافة في زمن الحصار والقصف

10 فبراير 2024
أنس دوراكوفيتش (1947 - 2024)
+ الخط -

نعَت الصحافة البوسنية، قبل أيّام، الناقد والأكاديمي أنس دوراكوفيتش (1947 - 2024)، الذي ينتمي إلى الجيل المخضرم المولود في بدايات يوغسلافيا التيتوية، وشارك في النهضة الثقافية لـ البشناق التي برزت بعد رحيل تيتو عام 1980، وصولاً إلى المُشاركة في حكومة الاستقلال (1993 - 1996) وزيراً للتعليم والثقافة. وكانت هذه مناسبة لاستذكار سنوات الحصار والقصف البربري على سراييفو (1992 - 1995)، وكيف عاشه المثقّفون حينها، في الوقت الذي تتابع فيه الصحافة البوسنية اليوم الحصار والقصف الذي يُدمِّر مؤسّسات التعليم والثقافة في غزّة.

وُلد دوراكوفيتش في قرية "بوليه"، في شمال البوسنة قرب الحدود مع كرواتيا. وبعد تخرُّجه من المدرسة الثانوية، انتقل إلى سراييفو ليدرس الأدب في جامعتها، وانضمّ عام 1973 إلى قسم آداب شعوب البوسنة والهرسك حتى تقاعُده في 2012. وقد برزت مواهبه الأدبية خلال الدراسة الجامعية، حيث أصبح مُحرّراً للجريدة الشبابية "ليتسا"، قبل أن يُتابع دراسة الماجستير والدكتوراه في الجامعة.

عبّرت كتاباته عن انعطاف ثقافي صاحَب استقلال بلاده

وفي هذا السياق، نشر عام 1979 رسالته للدكتوراه، بعنوان "خطاب وصمت الأسرار: النتاج الشعري لماك دزدار"، وهو الشاعر محمد علي دزدار (1917 - 1971) أحد أعظم الشعراء البُشناق واليوغسلاف في النصف الثاني من القرن العشرين. ومع انخراطه في حركة الانبعاث الثقافي البشناقي بعد رحيل تيتو عام 1980، يُلاحَظ أنّ كتابه الذي صدر عام 1991 حمل عنوان "مختارات من شعر المسلمين"، بينما حمل كتابه الصادر عام 1995 عنوان "مختارات من القصّة البشناقية"، ليوضّح هذا الانعطاف الثقافي الذي صاحَب الاستقلال السياسي للبوسنة عام 1992.

الصورة
نظرة في الأدب البوسني
"نظرة في الأدب البوسني" لأنس دوراكوفيتش

عمل دوراكوفيتش أستاذاً في قسم آداب شعوب البوسنة، التي كانت السلطة العُليا في البلاد تفرض، وحتى عام 1991، على الأغلبية فيها (البُشناق) اسمَ "الشعب المسلم" بالميم الكبيرة Musliman، تمييزاً عن المسلمين بالميم الصغيرة musliman أي الذين ينتمون إلى دين الإسلام! وفي الواقع كان هذا يعبّر عن ازدراء شعب الأغلبية وحرمانه من التعبير عن هويته القومية البشناقية التي اشتهر بها عبر التاريخ. ومن هنا كان دوراكوفيتش أحد مؤسّسي وقادة "مؤتمر المثقّفين البشناق"، الذي عُقد في 1991 وأعاد حقّ التعبير للبشناق عن هويّتهم. ولذلك فقد صدر كتابُه اللّاحق عام 1995 بعنوان ينسجم مع هذا التحوّل التاريخي: "مختارات من القصّة البشناقية".

ومع إعلان استقلال البوسنة عام 1992، الذي جرى في ظروف عصيبة خلال تفكُّك كلِّ يوغسلافيا، انضمّ إلى الحكومة الأُولى التي شكّلها الأكاديمي والسياسي حارث سيلايجيتش بين عامَي 1993 و1996، وزيراً للتعليم والثقافة، إيماناً بأنّ الحرب التي فُرضت على البوسنة تشمل الجبهة الثقافية أيضاً وليس العسكرية فقط. وهنا تُذكر إسهامات دوراكوفيتش في الاهتمام بإنجاز كُتب مدرسيّة جديدة تعبّر عن الانتقال السياسي والثقافي الذي حصل في البوسنة مع استقلالها.


تدمير الثقافة هدفاً للحصار والقصف

لم تدُم الفرحة في سراييفو بإعلان الاستقلال سوى عدّة أسابيع، إذ بدأ في الخامس من نيسان/ إبريل 1992، الحصار الصِّربي الذي دام حتى التاسع والعشرين من شباط/ فبراير 1996، أي أنه كان أطول بثلاث مرّات من حصار ستالينغراد. وبالمقارنة مع ستالينغراد، كانت سراييفو في حوض من السهول التي تُحيط بها الجبال من أطرافها، وهي التي تمركزت فيها المدفعية الصربية التي راحت، على مدى 1425 يوماً، تدكّ المدينة، بالإضافة إلى القنّاصة الصِّرب الذين كانوا يستهدفون الأفراد.

كان من مؤسّسي "مؤتمر المثقّفين البُشناق" عام 1991

كان الحصار مُحكَماً والقصف لا يشمل السكّان فقط، بل المؤسّسات الثقافية التي تحفظ ذاكرة الشعب وإسهام أفراده في الإبداع والتعبير عن الهوية. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن تقصف المدفعية الصِّربية في أيار/ مايو 1992 "المعهد الشرقي" في سراييفو الذي كان يحتفظ بأكبر مجموعة من المخطوطات الشرقية التي أسهم البشناق في نسخها أو تأليفها، وحُوّل المعهد إلى أنقاض، ممّا أعدم إلى الأبد أكثر من خمسة آلاف مخطوط.

الصورة
منظر المكتبة الوطنية في سراييفو وهي تحترق، آب أغسطس 1992 (Getty)
منظر المكتبة الوطنية في سراييفو وهي تحترق، آب أغسطس 1992

وفي هذا السياق أيضاً، قصفت المدفعية الصربية، في الخامس والعشرين من آب/ أغسطس 1992، "المكتبة الوطنية" في المبنى التاريخي الذي كان يُزيّن سراييفو، ويضمّ قرابة مليون كتاب تشمل التراث الثقافي للبوسنة. كان منظر "المكتبة الوطنية" وهي تحترق، وهو يوم لا يُنسى في تاريخ سراييفو، قد كشف عن أنّ الحصار والقصف يُريد أن يمحي أيضاً ذاكرة الشعب وليس الشعب نفسه الذي تكفّل به التطهير العِرقي، وهو التعبير الذي شاع في العربية مع حرب البوسنة.


على أكثر من جبهة ثقافية

في نعيه للراحل، استذكر الأكاديمي أسعد دوراكوفيتش (الذي لا يدلّ الاسم المُشترك على قرابة بينهما) أيّام الحصار والقصف المتواصل مع صديقه أنس دوراكوفيتش الذي كان يعمل على أكثر من جبهة ثقافية في الوزارة، وفي مشروع العمر "الأدب البشناقي في مئة كتاب"، بالإضافة إلى الندوات والمناقشات الكثيرة التي كان يحرص على حضورها.

وذكَرَ أسعد دوراكوفيتش كيف أنّه والمثقّفين الآخرين كانوا يُصرّون على الدفاع عن الجبهة الثقافية بتنظيم الندوات والمؤتمرات، ويذهبون إلى مكان انعقادها تحت القصف والقنص وهُم لا يعرفون إذا ما كانوا سيصلون إلى مكان انعقادها أم لا، وحتى إذا وصلو إليها وشاركوا فيها كانوا غير متأكّدين من العودة سالمين إلى بيوتهم. ولكن كلّ ذلك لم يُطفئ فيهم الحماس، ولم يسمحوا للخوف الداخلي أن ينتصر عليهم ويُبقيهم ببيوتهم في انتظار المجهول.

الصورة
آثار الدمار في "المكتبة الوطنية" بسراييفو، شباط/ فبراير 1994 (Getty)
آثار الدمار في "المكتبة الوطنية" بسراييفو، شباط/ فبراير 1994 (Getty)

عندما كانت سراييفو تحت الحصار والقصف كانت الكهرباء والماء مقطوعة غالباً، وكان شتاء سراييفو البارد يدفع الناس إلى الخروج وتقطيع أيّ شيء في الجوار لكي يحظوا بمادة تشتعل وتبثّ الدفء. في هذا الوضع اعترف أسعد دوراكوفيتش بأنه كان يُكمل ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى البشناقية على ضوء الشمعة، لأنه كان يعي أنّه بهذه الترجمة إلى لغته يؤكّد على الصلة بين الثقافة العربية التي ارتبط بها درساً وبحثاً وتدريساً وبين هويته البشناقية التي أصبحت مهدَّدة بفعل الحصار والقصف والتهديد بالتطهير العِرقي.

وفيما يتعلّق بصديقه الراحل، يقول إنّ أمثال أنس دوراكوفيتش لا يموتون في نظر شعوبهم لأنهم خالدون بما تركوا من آثار، وإنما الموت يشمل أولئك الذين لم يتركوا شيئاً بعد رحيلهم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون