حكمت كشلي فوّاز.. المسافرة بين الألسن والمعاجم

حكمت كشلي فوّاز.. المسافرة بين الألسن والمعاجم

04 اغسطس 2021
(حروفية لـ شارل حسين زندرودي)
+ الخط -

قبل العقود الثلاثة الماضية، لم تكن المُعجمات العربيّة والكُتب والمقالات المتعلقة بها مُرقمَنةً في الشبكة الافتراضيّة، ولا متاحة في الفضاء الواقعيّ، فلا يَجدها الباحث إلّا في المكتبات المُختصَّة. وكان البحثُ العلميّ فيها لا يخلو من مشقَّة كبرى وتَضحيات جمّة. وهذا ذاتُه ما كابدتُه الباحثة اللبنانيّة، حِكمت كشلي فوّاز (1942)، في تلك الفترة العصيبة من تاريخ لبنان أثناء الحرب الأهليّة وبُعيْدها. فقد غاصت هذه الباحثة في ما أتيح لها من الكتب تُعالج أصول الكلمات وتُعاين علاقات المشابهة والمُخالفة بينها، مُنشَدّةً إلى سِحر مبانيها ومعانيها، فَأصولِها البعيدة ضمن جُزُر اللغات السّامية، بثقافاتها المتقاطعة وحضاراتها المتشابكة. إلّا أنّها اختارَت أن تلجَ كونَ الكلمات عبر مُعجَماتها، وهي مَخازن الدلالات ومَكانزها.

فقد تخصّصت كشلي فواز في حقل المعجميّة العربيّة وتعمّقت في دراسة مصادرها الكلاسيكيّة والمعاصرة، ولا سيّما تلك التي ظَهرت في بلدِها، لبنان، منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى غاية الحرب العالميّة الثانية. واتّسمت أعمالها بالشمول والثراء، حيث كان من ثَمرات أنْظارها عشرة كتبٍ حول المعجمات العربيّة، وهو ما يجعل منها من أكبر المتخصّصات والمتخصّصين في هذا الميدان الفسيح الوَعر.

كانت بداية تآليفها أطروحة الدكتوراه التي طُبعت بعنوان: "المعجم العربي في لبنان" (1982)، وفيه استعادت كلّ النتاج المُعجمي الضخم الذي ظهر طيلة ما يقارب القرنَ من الزّمن، سواء أكانت معجمات مُستحدثَة، كَتبها أصحابها لتعقّب ما طرأ على الضاد من المفردات المُولّدة، أو معجمات كلاسيكيّة تطبع لأول مرّة بعد أن مرّت عليها فترة وهي في غَياهب المخطوطات. كما استحضَرت سائرَ التعقيبات والانتقادات والردود التي صيغت على هذه الأعمال في شكل كتب ومقالاتٍ. فالكتاب بمثابة تحليل مفصّل لكل النشاط الألسني الذي شاع في لبنان إبّان حقبَة النهضة مع استعادة معمّقة لعوامل هذا النشاط ومظاهره وحدوده.

قادتها مُيولها العلمية الأولى إلى التخصّص بحقل المعجمية

وخصّصت كشلي فواز، بعد ذلك، مَجموعة من الأعمال لتقديم المعاجم القديمة، ومنها، على وجه الخصوص، "لسان العرب لابن منظور: دراسة وتحليل ونقد" (1995) وآخَر لكتاب "العين" للخَليل بن أحمد الفراهيدي (1996)، ثم ثالثٌ "للقاموس المحيط" للفيروزآبادي (1996).

وفي هذه السلسلة، عادت إلى مناهج هؤلاء اللغويين القدماء في ترتيب المواد المعجميّة وذكرت مصادرَها وشواهدَها، وذلك بعد تقديم نُبذةٍ عن حياة الكاتب وأهم العوامل والبواعث التي أثّرت في صياغة الأثر وطريقة ترتيبه.

وتَصدّت الباحثة اللبنانية، عقب ذلكَ، لمعاجم الضّاد المعاصرة وإلى أهم روّادها وأصحابها، فَوضعت كتابًا عن الشيخ أحمد رضا وجُهوده المعجميّة (1996) وثانيًا عن مُعاصِره العلاّمة عبد الله العلايلي ونظرياته اللغويّة، ثم ثالثًا عن الأب أنستاس الكرملي ومُعجمه "المساعد" (1996)، فضلاً عن نشاط كبير في تحقيق النّصوص القديمة وضبطها، فقد تصدّت لِمهمة الإخراج العلمي لخَمسة مُجلّدات كاملة من موسوعة "نهاية الأرب في فنون الأدب"، لشهاب الدّين النّويري (1278-1333)، مما يشهد بصبرها الطويل على معاشرة تلك النّصوص العَسِرة، لتردّ الحياةَ إلى مخطوطاتها المغمورة. هذا إلى جانب تحقيق "تاريخ خليفة بن خيّاط" (1995) و"طبقات خليفة بن خياط" (1997)، وهو مؤرّخ ومُحدّثٌ عاش في الطور الأول من الفترة العبّاسية بين سنتي 777 و854م، ويُعدّ كتابه من أقدم ما أُلف وفق منهج الحَوليّات.

الصورة
القاموس المحيط - القسم الثقافي

ولا ننسى ما حفَلت به تجربة كِشلي فواز من التدريس في الجامعة اللبنانية، بقسم اللغة والآداب العربية، ومشاركتها في المؤتمرات، إذ تصبُّ كلّ أعمالها في خدمة الضّاد ومَصادرها، حرصاً منها على إتاحة المعرفة بها لأكبر عدد ممكن من القرّاء. فقد كانت هذه الباحثة ميّالةً لدرس حَياة المفردات في اللغات الساميّة القديمة ولذلك دَرَست السريانيّة حتى أتقنتها، وصارت لها أستاذة في أروقة الجامعة، كما كانت مهتمة بالمقارنة بين ألفاظ اللسان السّرياني والعربية وما يطرأ على كلماتها من تحوّلات صوتيّة ودلاليّة أثناء سفرها من لغة إلى لغةٍ أختٍ، مصاقبة لها، وبالتفاعل الذي حَصل في شبه الجزيرة العربية بين لهَجاتها القديمة، تحاورًا وتقاطعًا.

وقد أكدت كشلي فواز، في حديث جمعني بها، أنَّها لم ترث اهتمامَها بالمعاجم من أحدٍ، وإنّما تأتّى لها ذلك من كَلَفها الشّديد، في مبتدأ أمرها، بالرّياضيات و"العلوم الصحيحة"، حيث كانت مُيولها الأولى علميّةً أكثرَ منها أدبيَّة. وبهذا الزاد المعرفيّ - الذهني خاضت غمارَ متون اللغة باحثةً عن المنطق الخفي لها والمُعادلات الدقيقة التي تختفي وراء كلماتها وعباراتها. فَصارت "تُدغدغ المفردات"، وهذه الصورة الرقيقة من نسج خَيالها، كما اهتمّت بالألفاظ اهتمامًا يقربُ حدّ العِشق، إذ كانت تَشعر بلذة قويّة وهي تخاطبها وتعاين ما حصل بينها من تفاعلٍ في سالف الحِقَب، الأمر الذي وَجّهها إلى المقارنة المعجمية ومعالجة قضايا الكلمات وتطوّراتها إلى جانب الخوض في مسائل الترادف والتوليد والتفاعل.

وعلاوةً على هذا العمل العلمي الدقيق، كَتبت كشلي فواز مجموعة من الخواطر الشعريّة، ومنها "صدى الأيام" و"رحلة العمر" بثت فيها لواعجَ نفس متألمة وخطراتٍ رُوح مُتوحِّدة، إلا أنه، ومع الأسف الشديد، لم يُكتب لهذه الخواطر أن تُطبع وتَخرج إلى الجمهور، رغم جماليّتها وبعدها الذاتي العميق، والعديد منها ما زال مخطوطاً.

بحثت أصول الكلمات العربية في جُزُر اللغات السّامية

في السنوات الماضية، ما كنتُ أعرف أعمالَ هذه الباحثة، وأحسّ اليومَ أنني قريبٌ منها. فقد تَصادف أنَّنا نحمل الرؤية ذاتَها للمعجمية العربيّة وتاريخها، وأنّنا اشتَغلنا، من حيث لا ندري، على الموارد والشخصيّات عينها، وهو ما جَمعَ بين عقليْنا مع أننا لم نلتق أبدًا. ولذلك أردتُ، في هذه الأسطر، إرسال تحية إلى حكمت كشلي ومن خلالها إلى كافة المُعجميين العرب المغمورين الذين اشتغلوا طيلة القرن الماضي بعيدًا عن الأضواء في صبر وأناةٍ، قبل أن تشيع نار الرّقمنة برداً وسلاماً وتَظهر المشاريع المعجمية الضخمة مثل "مُعجم الدوحة التاريخي" الذي يضم أكثر من 300 باحث من سائر الأقطار يعد أو أتيحت لهم عشرات المصادر والموارد.

في تلك الحِقبة، كانت هذه المصادر شحيحة وتوفّر الكتاب صعباً نسبياً، ومع ذلك تعمقت فيها كشلي فواز وأكبّت على دَرسها من أجل رسم تاريخي شامل دقيق لنشأة المعاجم في بلاد الأرز وتطوّرها وتداخلها. إلّا أنّها أنجزت أكثر من تاريخ: فقد وَضعت اللبنات الأولى للحَفر الثقافي في تعالقات المعاجم وتحولاتها ونَسجت ما يمكن اعتباره بواكير علم ما وراء المعجمية métalexicologie المستقصية لظروف انبجاس هذا الصنف من مُتون الثقافة وفُنونها.

نرجو لها طول العمر ودوام الصّحَّة والعافية.

المساهمون