حكايتنا التي لا تموت

حكايتنا التي لا تموت

10 نوفمبر 2023
من تظاهرة في واشنطن تضامناً مع فلسطين، 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استطاع المستوطنون الأميركيون الأوائل إبادة السكّان الأصليّين هناك، ثم تمكّنوا، جزئيّاً، من إبادة ذاكرتهم أيضاً، وما بقي من ثقافتهم يرويها أحفاد أولئك المستوطنين أنفسهم، لا الهنود الحمر، كما سمّوهم. وقد يمنحون الميّتين بعض العزاء بالإشارة إلى طقوسهم، بعد أن استقرّت أميركا وباتت الدولة الأقوى في العالم.

وكان المأمول منذ البداية، لدى الصهاينة الأوائل، أن يتمكّنوا من إبادة الفلسطينيّين، بفكرة "إسرائيل" التي نشأت على المنوال الأميركي ذاته، ولكنّهم لم يستطيعوا. لقد تغيّرت الظروف نسبيّاً، بحيث أتاحت لهم أن ينفّذوا مشروع الاستيطان وإقامة الدولة، ولكنّهم عجزوا عن إبادة "السكّان الأصليّين"، دون أن يتخلّوا عن الفكرة، أي فكرة إبادة الفلسطينيّين، ومحو ثقافتهم وذاكرتهم.

بقي الشعب الفلسطيني حيّاً. لقد نجا منهم بضعة ملايين، وظلّوا في فلسطين، وعلى الرغم من كلّ المحاولات لمحو هويتهم،  ظلَّ اسمهُم الفلسطينيّين. حتى اسم عرب الـ 48 لم تُكتب له أيُّ حياة، ونجا منهم بضعة ملايين وانتشروا في الأرض. كذلك فإنَّ المعادل الموازي للوجود، وهو الذاكرة، بقي حيّاً. 

على الرغم من كلّ محاولات محو هويتهم، ظلَّ اسمهُم الفلسطينيّين

وبين جيل وآخر، تهبّ موجة شبّان شجعان، من غزّة، أو من الضفّة، أو من أي مدينة فلسطينية، بالحجارة أو بالبنادق، ويقدّمون عشرات أو مئات أو آلاف الشهداء، كي يكسروا سكينتنا وصمتنا وتأهّبنا لقبول الذاكرة الإسرائيلية عن المسألة ذاتها، ويعيدوا السرد من جديد؛ فالحكّام العرب ظلّوا، حتى الأمس، يتراكضون الواحد تلو الآخر نحو تل أبيب، بذريعة السعي نحو السلام، وصورة الإسرائيلي المتجوّل في الشوارع العربية، باشرت، أو كادت، بالتجوّل في تلافيف دماغ الكثير من المواطنين العرب: تاجرٌ شاطر، مقاول ذكي، رجل أعمال. الذكاء الإسرائيلي والمال العربي وتطوّع عدد من الكتّاب والصحافيّين العرب في مهمّة تعبيد الطرق، بمهاجمة الذاكرة العربية قصد إلغائها، وتطبيع الرواية الإسرائيلية.

نجح الصهاينة في مشروع الاستيطان ولكنّهم عجزوا عن إبادة الفلسطينيّين

ما يحدث اليوم، استعادة متجدّدة للحكاية الفلسطينية، لا بين العرب وحدهم، ومن بينهم من يريد أن ينسى ويخلص من "وجع الرأس" هذا، بل في العالم بأسره. وحشيّة الصهاينة أثبتت أنَّ مشكلتهم التي لن تنتهي هي مع الذاكرة العربية كلّها، لا ذاكرة الفلسطينيين وحدهم، والحرب الأخيرة على غزّة أعادت إلى الأذهان أنّ من يصالحهم حفنة من حكّام لا يملكون ذرّة واحدة من القدرة على التحكّم في الحكاية، وأنّ مشكلة الصهاينة وداعميهم في الغرب والشرق هي مع الشعوب العربية، وفي كلّ مرّة تزداد سماكة الدم الفاصل بين الجانبَين، بينما تُضاف إلى سرديتنا التي لا تموت قصص أُخرى عن القاتل الذي يريدون أن يُلبسوه ثياب الحمام. فالحكاية والرواية والقصّة والمسرح والفنّ التشكيلي والشعر الشعبي والسرد التاريخي كلُّها خارج سلطة الحاكم العربي، وخارج قدرة أيّ سلاح على القتل.  

والمفاجأة لدى قادة الغرب أكبر بكثير ممّا نتخيّل، كما أفترض، فأولادهم، الذين كان عليهم أن يدافعوا عن "إسرائيل"، حيث كانت الذاكرة مغيّبة بقوّة السردية الصهيونية التي تبنّاها هؤلاء القادة بقصد، وغذّوا بها أجيالاً من مواطنيهم، يرفعون علم فلسطين، وينادون بحريّتها، ولا يملك أولئك القادة، ولا الصهاينة، أيّ سلطة عليهم أو على الذاكرة الجديدة التي ترفض أن تكون مرآة لفكر استعماري متوحّش يخرجهم من إنسانيتهم.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون