حدائق العاشق (8): الكويت

حدائق العاشق (8): الكويت

29 يوليو 2023
طفلات كويتيات بعد نهاية الحرب (Getty)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.



سيكون الذي يأتي أشدّ ظلاماً.


أطلَّ الجنديُّ العراقيّ من مَكمنهِ الإسمنتيّ مثل خلندٍ مُعفَّر بالتراب، وظلَّ ساكناً يتطلّع إليه، وهو يحاول تشغيل سيارته. لم يلتفت إليه.

كان المَكمنُ على بُعدِ بضعة أمتار من بوّابة الحديقة. على الرصيف أمام بوّابة السفارة التايلندية المهجورة.

وظلّ الخلندُ ساكناً، والرجلُ يرفع غطاء المُحرّك، ثم ينزع رأس البطارية ويُعيده ويتفقّد الأسلاك. كلُّ شيء على حاله، إلّا أنّ الكهرباء ضعيفة، ولا يُصدر مفتاحُ التشغيل إلّا صوتاً رفيعاً لا يلبث أن يموت.

أخيراً ترك الرجل كلَّ شيء على حاله، وعاد وتوارى خلف سُور الحديقة من دون أن يلتفتَ إلى الخلندِ الذي كان يُحرّك رأسه في نصف دائرة مُتابِعاً خطواته.

على الرصيفِ المقابل جنديٌّ آخر ينحني أمام خرطوم مياه، يمتدُّ من حديقة بيت كبير، ويُمسك به خادمٌ هنديّ قاتم الملامح، فيغسل يديه ووجهَه وساقيه الشبيهتين بساقَي جرادة. ثم يتناول مِنشفة عن كتفه. يقفُ على الرصيف. يمسح وجهه. يتفقّد حزامه، ويصيح بشيء ما مُخاطباً الخلندَ في مكمنه الإسمنتي. 

من مكانٍ ما يجيء إليه صوتُ سكونٍ مُهدِّد: اللا شيءُ يُهيمن على كلِّ شيء

كان الشارعُ خالياً إلّا من سيارةٍ تمرُّ مُتمهّلةً بين آونة وأُخرى، وتتوقّف أمام حاجزٍ خشبي يسدّ الطريقَ أو نصفه على الأقلّ، إلى أن يُشير جنديٌّ مائلٌ على كرسيّه لصاحبها بالمُضيّ في طريقه. 

شمسُ أوائل النهار تُضيء المكمنَ، وبابَ السفارة المغلقَ، وسورَ الحديقة المنخفض الذي توارى خلفه الرّجُل. 

من مكانٍ ما يجيء إليه صوتُ سكونٍ مُهدِّد. اللا شيءُ يُهيمن على كلِّ شيء. على المرئياتِ والذكريات، وعلى الدقائق المتأهّبة للمجيء وهي تقع في قبضةٍ وهميةٍ غامضة فتتوقّف ولا تجيء، تاركةً للمرئياتِ عُريها، كأنما تجوّفتْ واحتلَّ الفراغُ مكان ثقلها وألوانها وحجمها. حتى حوض النعنع على بُعد مترين إلى يسار باب الشقّة الأرضية، حتى شجيرة الرمّان، وبعدها شجيرة الليمون، وهكذا حتى آخر الممرّ الإسمنتي بين خطّين من أزهار صيفية، وصولاً إلى باب السور الحديدي المنخفض.
 
زهرةُ رمّانٍ وحيدة مُغبرّة لا تزال عالقة. أما شُجيرة الليمون فقد تساقطت أزهارُها مع هبّاتٍ عصفت بالأمس. ها هي بتَلاتُها ملتصقة بالتراب.
 
على يمين الممرِّ الإسمنتي تركَ مساحةً خضراء. بضعةَ أمتار للعُشب وحده تنتهي عند حديقة الشقّة المُجاورة. اختار أصحابها أن يفصلوها عنه، بأشجار دفلى عالية، لا يتذكّر أنها أزهرت أبداً.

الدفلى شُجيرةٌ جميلة، تذكّر أزهارها الوردية والحمراء الغامقة والبيضاء، وخضرة أوراقها الكثيفة وتمايُلها حين تهبُّ الريحُ بالوطن، أو بالعُمر المفقود على حدّ تعبير أخته الستينية. كانا يمُرّان بالسيارة بجوارالشاطئ حين التفتَت إلى أجمةٍ خضراء عالية ووحيدة ومن ورائها زُرقة البحر، فندَت عنها شهقة قصيرة:

كتابُ بريستيد "فجر الضمير"، مفتوحٌ على طاولة المكتب العريضة

- "دفلى... يا للخسارة... راح العمر مَعْمَسة!". 
                  
لا يدري كيف يرتبط العُمر بمشهد أزهار الدفلى أو أيّة أزهار، إلّا أنّه يحسّ بهذا الارتباط، كما يحسُّ بهشاشة وجود الكائن حين يستمع إلى صوت الكمان ليلاً، فيتحوّل إلى إصغاءٍ تامٍّ يمحو مشهدَ الأسطوانة الدائرة، وصفوفَ الكتب الصامتة، والنافذتَين المُطلّتين على الليلِ، حيث يتخيّل مسارَ الصوت الهادئ، إصغاء لكلّ ما يجيء ليذهبَ ولا يعود.

كتابُ بريستيد "فجر الضمير"، مفتوحٌ على طاولة المكتب العريضة. إلى يساره ستائرُ النافذتين وإطلالةٌ على رؤوس شجيرات الياسمين ساكنةً تغطي السور، فالشارع الصامت، فالبيت المُواجه بمكعّباته الحديدية وشرفاته القاتمة، وسطوحه القرميدية التي تذكّر بسطوح قُرى الشمال الأوروبي.

الجنديُّ المغتسِل لا يزال يتجوّل متمهّلاً على الرصيف جيئةً وذهاباً، وقد استردّ بندقيته، ولا زال يجفّف وجهه بمنشفته. يتوقّف أحياناً ليتحدّث إلى اثنين من الخدم أمام بيت السطوح القرميدية، ثم يُواصل تجواله.

البيتُ الساكن خلا من أصحابه. فقبل أن يصل الجنود، ويبدأوا بحفر المَكمَن وإقامة حوائطه الإسمنتية المنخفضة على الرصيف، ويتركوا ثلاث فتحات مُستطيلة تُطلّ على ثلاث جهات، اكتظّت سيارةٌ ضخمة أمام البيت بالأكياس، وشدّت على ظهرها الحقائب، وظلّت هكذا طوال ساعات، ثم اختفت فجأة من دون أن يُلاحظها.

سكّانُ الشقّة المجاورة اختفوا أيضاً فجأة، ولم يعُد يُحَسّ بحركةٍ في حديقتهم المجاورة، وراء أشجار الدفلى. لم يبق في الحديقة سوى بضعة إطاراتٍ مطّاطية، وموقدٍ حديدي مرتفع مسودّ يتناثر حوله فحمٌ قديم لفحه البياض.

حارسُ البناية السوداني بلهجته المائلة الحروف. اختفى أيضاً. وعبَثَ الأطفالُ بأثاث غرفته حتى لم يبقَ فيها سوى أغطية مُمزّقة وبقايا عُلب وزجاجاتٍ فارغة، ومفاتيح لم يعرف أحد لأيّ غرض كان يستخدمها. كلُّ شيء يختفي ويتلاشى ويضمحلّ كأن كلّ شيء لم يكن.

ينقل بريستيد عن راويةٍ مصري قديم مرثيّةً يتفجّع فيها على ما حلّ بمصرَ قبل أربعة آلاف عام. الغرباءُ يحلّون في الأرض فيفقد كلّ شيء معناه: المشوارُ اليوميّ والحدائق والنهاراتُ والمساءاتُ، وينقطع فجأة تيار الزمن. يتوقّف عند صخرة بعينها، لا يعود قبلها ماضٍ ولا مستقبل. لا شيءَ يجيء، لا شيءَ يذهب، يصبح كلُّ ما نحبُّ نائياً كأنما في حُلم لا يُطاق، يعجز الإنسانُ، تُحاصره صرخاتُ جاره وهو يُقتل، فلا يستطيع إنقاذه، لا يستطيع إنقاذ الأطفال الذين تجرفهم أمواجُ الكآبة السوداء بعيداً.
 
يعودُ إلى المكتبة برفوفها المُحيطة به من الجهات الأربع، لا شيءَ سوى المكتبة. هؤلاء الناس الذين أصبح وجودهم فائضاً، مثلنا تماماً، كانوا مألوفين مثلما هي مألوفة لوحة "الغورنيكا" الطويلة على الجدار، والمزهرية اليونانية الزرقاء.

يتساءلُ مُندهشاً ويتذكّر كم هي المسافة شاسعة بين ليلة البارحة، وهذا النهار الساكن الذي لا يتجوّل فيه غير الجنود المغبرّين، أمام البيوت الفارغة في صمتها ووحدتها.

من المهمّ أن يروي الإنسانُ الأشجارَ والأزهارَ، ولا يترك لهذا السكون المُهدِّد أن يفقده صلته بالملموس والحيّ. في صوفيا، في عيد الربيع، يعلّقون ألعاباً صغيرة منسوجة من خيوط حمراء وبيضاء على كلّ شيء. على صدورِ الناس والشجر، لهذا يُصادف العابرُ بدءاً من أوائل آذار/ مارس هذه الألعاب الصغيرة تتدلّى على صُدور النساء والأطفال والعجائز، ومن أغصان الأشجار. 

الأمرُ يتعلّق بالحياة وبشيء آخر: ابتكارِ ضدٍّ عنيفٍ لهذا السكون المفروض. سكونِ الآنيةِ الحجرية. ما إن يُواجه الإنسانُ وجهَ الجندي الخلندِ، أو الجندي الجرادةِ، حتى ينتابه شعورٌ بسرَيان التصلُّب والنسيان في روحهِ. تصلّبٌ يمتدُّ شيئاً فشيئاً في أعماقه، فيرى نفسه شيئاً غريباً. هو ليس ذاته، هو ليس ما كانه أو ما يريد أن يكون. وحين تتسلّط عليه عيونُ جندي الحاجز الشبيهة بعينيّ عظاءة، ويُطالبه بهويته، أو يفتح باب السيارة مفتّشاً عن شيء ما، ينتابه شعورٌ بأنه ارتدّ إلى عصر بعيد، ما قبل اللغة والوعي. ما قبل الإنسان.

ذات مساءٍ خرج رجلٌ من وراء سور بيته مُمسكاً بخرطوم مياه، وبدأ متمهّلاً بِرَيّ أشجار الرصيف كما اعتاد أن يفعل دائماً غير مُلقٍ بالاً للشاحنات العسكرية، وهي تتمهّل في سيرها.

ريُّ الأشجار ضروري، هكذا فكّر، وكذلك البحث عن الإنسان. عن البشر في هذا الركام من الآليات والمدافع والبنادق والخلندات والجراد، البشر المُتباعدين الذي تلوح وجوههم بين الأنقاض والغُبار والبيانات العراقية الهادرة برغوتها الطاغية على كلّ شيء.

من المهمّ ألّا يسمح الإنسانُ لهذا السكون أن يُفقِده صلته بالملموس والحيّ

أحياناً كانت تنطلق في السكون زخّاتُ رصاص، وصوتُ سيارة مُسرعة، فيميلون قليلاً بعيداً عن النافذة لتفادي أيّ رصاصة مُحتملة، ويواصلون الحديث.

منذ اليوم الأول لم أُغادر الشقّة إلى الصحيفة، بل نسيتُ وجودها. في هذا الضجيج أفهم أنّ عليّ أن أنقطع تماماً عن الأشياء التي خَلتْ من لبّها. العملُ وخُطط الغد. لا خطط. لا معنى للنخلة حين يحتزُّون لبّها.

إنسانٌ وجد نفسه فجأة في عصر الزواحف البعيد. وعليّ أن أتلمّس طريقي إلى اللُّبّ، إلى الناس وحدهم. الناس الذين يتوزّعون الآن في أمكنةٍ عديدة لا ثباتَ لها: مشتّتين، ضائعين، مُحاطين برغبات تقطّعت وراء زجاج مُغبرّ. يتحرّكون ويتحدّثون في مشهد صامت. لا يصلُني حديثهم.

هذه العظاءة الديناصورية البلهاء تُطلّ علينا في اليقظة والنوم، فنصحو مُتسائلين: أحقاً ما حدث أم أنه مُجرّد حادث عابر في الماضي؟

قبل سنواتٍ راودني حُلمٌ عجيب: طائراتٌ سوداء تُغطّي سماءً صافية بغُيوم بيضاء، وتبحر ساكنة وبطيئة إلى الأعلى... فالأعلى. حلمٌ بلا معنى. فمن يتوقّع أن يندلع بركانٌ في صحراء، أو يصحو صباحاً فإذا العصرُ الجليدي حلّ حوله؟ 

في منتصفِ الليل ليس سوى حفيفِ أوراق الشجر، وسكونِ الشارع والبيوت المُظلمة، وسماءٍ تبدو بعيدة جدّاً، لأن أنظاره مُركّزة على حافة السور المغطّى بالياسمين القاتم.

سرُّ شجيرات الفُلِّ القصيرة يجتذبه. هذه الشجيراتُ تظلّ براعمها مُغلقة، خضراء. وفجأة حين يصحو صباحاً يجدها تنفجر بالبياضِ، والأريجُ المميّز يملأ الهواء. في الفجر أحياناً يسير جيئةً وذهاباً بمُحاذاة شجيراتِ الفلِّ تحت النافذتين مُنتظراً لحظة هذا الانفجار، إلى أن يُصيبه النعاس، ولا تخرج البراعمُ الخضراء من صمتها فيأوي إلى فراشه متخيلاً أنّ الشجيرات لا تفجّر بياضها إلّا في الوحدة، تنفتح بهدوءٍ مستمتعةً بوحدتها اللامعة في وحشة الحديقة.
 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون