حدائق العاشق (10): غابة التوت البري

حدائق العاشق (10): غابة التوت البري

12 اغسطس 2023
خضير الشكرجي/ العراق
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"آه... كم إنّ لجسدها رائحة الخوخ الأحمر الغامق".

(كزو زيمو)

اختفى الرجلُ المعجزة. في مكتبه ليس سوى صناديق وصناديق. شابٌّ وشابّة بلغاريان ينحنيان على صندوق مفتوح من دون أن يبدو أنّهما يقومان بعمل محدّد. 

هزّ الشابُّ رأسه، وتطلّعت الشابّة مُستغربة: "لا أحدَ هُنا بهذا الاسم". 

ودَّ أن يسألهما ماذا يفعلان بين هذه الصناديق، وما معنى وجودهما هنا، إلّا أنّه تراجع. يبدو أنّ السكّان الجُدد لا يعرفون شيئاً عن الذين كانوا، أو لا يُريدون أن يعرفوا، أو هم يخشون أن يعرفوا.

تراجعا عن الباب مُعتذرين باللفظة البلغارية الوحيدة التي يعرفها حتى هذه اللحظة: 

"ازفينيتا". 

آسف. وأغلق الشابُّ الباب بعجَلة كأنّه يُغلق وكراً سرّياً، ليظلّ هو والشابّة وحيدَين، وأيضاً بلا معنى كما بدا له.

بقايا الثلج متجمّدةٌ بمُحاذاة جُدران البنايات حتى آخر الشارع. خطواتُ المارّة أزاحتها جانباً وخلّفت ممرّاً طينياً لزِجَاً في الوسط. الثلجُ مُعتِمٌ يشوبه سوادُ المداخن. اختفى البياضُ وهشاشته التي كان يُحبُّ أن يغوص فيها بقدميه حين يسيرُ في الحدائق. اختفى اتّساعه اللانهائي الذي غطّى الأشجار الصنوبرية، والممرّات وسطوح المباني. كان خفيفاً مثل ريشٍ وهو يتساقط على وجهه ومعطفه. اختفى البياضُ الناصع الذي كان على مُنحدرات جبل فيتوشا حتى قمّته هناك باتجاه الشرق. خطوطٌ سوداء وغاباتٌ غامضة الخضرة، وقمّةٌ بيضاء يسيل على جوانبها البنِّيُّ والأزرقُ والأسود. كلُّ ما تبقى.         

لم يكن يعرف أنّ الرجل المُعجزة يسترخي الآن، في "سجن صوفيا المركزي"

في القناةِ المُحاذية للشارع هديرُ مياه: الجبلُ يتدفّق كما فعلَ ويفعل قبل أن تملأ الكائناتُ والمكعّباتُ البيضاء والرَّمادية والبُنّية وسطوحها القرميدية هذا السهل، قبل أن تكون الأرضُ مساحاتٍ هندسية مُنتظمة، خضراء. بُنّية. حمراء.

حين تحطّ الطائرةُ يختفي هذا المشهد، وقبله يختفي مشهدُ الأرض المتجعّدة القاتمة والنائية، تحت الغيوم البيضاء، وتدخلُ في مشهد الكائنات. تنغلق حولكَ الشوارع والمباني، وتشغلك اللافتاتُ التي تُصرُّ على قراءتها بلا سبب مُحدّد في أيّ بلد حلَلْت.

يلفت المصباحُ السحري نظرَه إلى أنّ هؤلاء الناس، أمثال الرجل المعجزة، مزوّري جوازات السفر، يظهرون ويختفون ولا تعرف لماذا ومتى. إنهم مغامرون متنقّلون، سادة العصر، أو سادة حاراته الخلفية.

لم يكن يعرف أنّ الرجل المُعجزة يسترخي الآن، في "سجن صوفيا المركزي"، على مُرتفع وراء أقصى أحيائها القديمة الشمالية.

المصباحُ السحري يتوحَّد في شقّته النائية على الأطراف. هناك حيث يمرّ شارعُ المطار العريض، وتصعد وتهبط الطائراتُ يومياً بلا انقطاع، ينشغل بإعدادِ وجبة عشائه، وتبريد زجاجة الراكية لسهرة الذئب، كما يسمّي سهرته، وحيداً.

في ساحة الأندكا يتوقّفان. المركزُ الثقافي المُرتفع يتحوّل إلى أسواقٍ تجارية. الفضاءُ وحده ما زال شاسعاً. هناك تنحدر المباني وتنخفض. تنحدر الأرضُ المغطاةُ بسقوف قرميد متواضعة حتى جبل فيتوشا العالي والممتدّ مُحيطاً بالشمال والجنوب معاً.

تحت هذا البحر المُضطرب ما يتهيّج من وجوه وشوارع وأمكنة

فيوليت بساقَيها الطويلتين، وأنفها المعقوف الذي يكاد يصل إلى شفتيها الرفيعتين، تعتقد أنّ من السيِّئ أن يكون أصل الأبجدية السلافية تُركيّاً، أما إن كان عربيّاً فلا بأس.

ترفع ساقيها المتصالبتين بلامبالاة في صالة بيت نادية، وأمامها سائق شاحنة يونانيّ غليظ الرقبة، يُصغي بذُهول إلى أطروحتي حول أصل اللغة اليونانية.

أقول إنّ أجداده الحُفاة أطلّوا من كهوفهم ذات صباح مُشمس على شاطئ أتيكا، فشاهدوا مُعسكراً ودخاناً وسفناً راسية. فتسلّلوا واحداً بعد الآخَر للتعرُّف على هذا الرُّعب، أو هذا الكون الذي حطّ فجأة على الشاطئ الخالي إلّا من أشجار الزعرور والبُندق.

أتعرف ما كان ذلك؟ كان معسكراً كنعانياً أقامه البحّارةُ ليرتاحوا ويشربوا القليل من النبيذ.            

في ضوء نيران ذلك المعسكر سمع أجدادُكَ الكلام لأول مرّة، وتلمّسوا الثياب الأرجوانية السابغة، ونعومة السيوف البرونزية والدروع.

لم يبدُ على اليوناني أنه يصدّق هذا، فاضطررتُ إلى تذكيره بكلماتٍ يونانية ذات جرس ومعنى عربيَّين، ولم يفهم أيضاً. وأخيراً تأففتْ فيوليت من هذا الهراء. كانت مشغولةَ الذهن بشيء آخر.

قالتْ نادية هامسةً، وهي تميل عليّ: "هناك مشروع خطبة... ربما... من يدري؟"، فبدا لي من المزعج أن تتم خطبة فيوليت واليوناني من دون أن يعرفا شيئاً عن أصل اللغة، أو ذلك المعسكر الكنعاني، أو حتى عن الأخوين كيريل وميثودي اللذَين جلبا الأبجدية اليونانية إلى السلاف المتوحّشين، من دون أن يُدركا أنّها أبجدية كنعانية، وأنه لم يتم تعميدها بعد في كنائس بيزنطة.

يعرفُ الآن ما يتهيّج تحت هذا البحرِ المُضطرب من الكتبِ والوجوه والشوارع والأمكنة، وساحات الحمَام في العواصم البعيدة. يعرف ما يتنفّس كأنّما يُوقظه الندى وحفيفُ الشجر، وامتداد زرقة السماء حتى آخر مجرّة: ذلك الجسد، منحنياتُ الأرض، التلالُ والروابي واستدارة القمر. الصمتُ وحده حولهما. أصواتٌ خفيضة تُشبه صوتَ رقرقة النبع وسكونَ الأيائل وتمايل الأعشابِ، والنداءات البعيدة الغامضة بين التلال. كان يحسُّ بالتِمَاع النجوم وهمساتِ الرِّياح بين أشجار التوت البرّي وحركة الجسدين المتموّجة، كأنما في غابة نائمة، وهمسةٍ مبحوحة...

يتركني المصباحُ مبكّراً لأن طريقَ رحلته إلى شقّته النائية وليلته الذِّئبية طويلٌ ومُرهق. أتخيّلُ أحياناً أنّه يمتدُّ حتى الفجر. أُراقبه وهو يودّعني كأنه متعجّل، ويستدير بقامته المُنتصبة ووشاحه الصُّوفي يلفُّ رقبته، وخطواته المُنتظمة، قبل أن تغمره المعاطفُ البُنّيةُ والرّماديةُ والقبّعاتُ في نهر الشارع العريض.

لنتغيّر أو نغيّر الزمان والمكان. أنتَ لست قوقعةً، أنت طائر

صوفيا مكتظّةٌ بالبشر وأشجارِ الكستناء تحت سماءٍ خفيفة الضوء. شمسٌ نحيلة، أو ليلٌ مُفاجئ. ترتفع فجأة سحبٌ سوداء آتية من الشمال فوق امتداد فيتوشا، وتُحرّكُ الرياحُ أوراق الشجر، وتتساقط أوائلُ القطرات، قبل أن يهطل المطرُ غزيراً وجارفاً، وتضاءُ أعمدة النور، وتتوقّف الترامفايات، وتتجمّع القبّعاتُ والمعاطفُ والمظلّاتُ عند محطّات الوقوف، ويتحوّل الشارعُ إلى نهر عريض هادر بالمياه الطينية المتدفّقة.

أعماقُ الغابات البعيدة الصامتة يُغرقها هذا السيلُ المُندفع نفسه، ولكنّها تتماسك أمام طُوفان المياه. ظُلمةٌ وأوراقُ شجر مُتراكم، وعزيفُ شجر متوحّد. هذا هو الكون كما كان وكما سيكون.

أكتب إلى محمد القيسي رسالةً تظلّ بين أوراقي. الرسائلُ الثمينة لا ترسل أبداً:

"مثلما أنّ لكَ هُناك مقهى في الزقاق الذي يلغيكَ، لي هنا مقهىً آخر، والكثير من القلق والتوجّس". 

تجيئُني المرأةُ ذات العينين الواسعتين والشامة النافرة، بلا مُبرّرعلى صفحة خدّها، وشعرها الكثيف المشدود إلى الوراء، وسِمات وجهها الصارم الأبيض، وقامتها المشدودة بثوب أسود. فنجانُ القهوة اليومي وصحن البقلاوة.

الوقتُ ظهراً، والرذاذُ ما يزال يتساقط والقبّعاتُ والمظلّاتُ تتوالى خارج نافذة المقهى العريضة وتختفي. 

"فجأةً نجد أنفسنا بمعزل عن كلّ شيء. الصداقاتُ هي ما يُنقذ. ويقال الفنّ أحياناً، أعني الكثير من الحنين إلى اختراق اللحظة وصلابة الموجودات. منذ ثلاث سنوات وأنا مُنغمر بقراءة ما فاتنا طوال الألف الثانية بعد الميلاد. إنّه كثير إلى درجة مرعبة...".

وأكتبُ:

"تحت هذه الشمس النحيلة أعرفُ أنّه لن يتغيّر شيءٌ في الزقاق العربي. لنتغيّر نحن إذن، أو نغيّر الزمان والمكان. أنتَ لست قوقعةً، أنت طائر. في هذه الأمكنة تنسرب الأفكارُ لسبب ربما يبدو بسيطاً: لا شيءَ ممّا تعرف يُمكن أن تصطدم به. الكلُّ مجهولٌ، هذه اللغاتُ والأجناس والسماوات التي تُخاطبك بجسدها فقط...".
 

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون