انتفاضة ضد فزّاعة معاداة السامية.. "يوتوبيا برلين" تضيق على المبدعين

انتفاضةٌ ضدّ فزّاعة معاداة السامية.. "يوتوبيا برلين" تضيق على المبدعين

14 يناير 2024
من مظاهرة في برلين ضدّ قمع التضامن مع فلسطين، 20 كانون الأول/ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

شارك، مطلع هذا الأسبوع، العشرات في مظاهرة بالعاصمة الألمانية برلين دعت إليها مجموعة من الفنّانين والناشطين في الحقل الثقافي، اعتراضاً على إعلان "ديوان الثقافة والتضامن المجتمعي" في مجلس شيوخ برلين، تبنِّيه تعريفاً جديداً لـ"معاداة السامية"، يكون أساساً لدراسة استصدار المنح للمشروعات والأعمال الثقافية والفنّية من الميزانية المخصَّصة لدعم المشهد الثقافي في المدينة.

وتُعدّ برلين عاصمةً فنّية جاذبة لكثير من المبدعين على اختلاف أدواتهم ورؤاهم الفنّية وتوجّهاتهم السياسية. وقد استطاع كثير من المبدعين تحويل المدينة إلى مسرح استعراضي كبير لتجارب فنّية رائدة. لكن أغلب الناشطين في الحقل الثقافي والفنّي الذين أظهروا دعمهم وتعاطفهم مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض إلى إبادة جماعية ممنهجة في غزّة والضفّة الغربية، وامتعاضهم ونقدهم لجرائم "إسرائيل"، بدأوا يشعرون اليوم أنّ حريتهم الإبداعية مهدّدة، وأن يوتوبيا برلين التي بنوها بدأت تضيق عليهم، وقد صاروا مهدَّدين بقطع المنح عن مشروعاتهم الجارية أو منعهم من الحصول على أيّ تمويل أو دعم مستقبلاً لمجرَّد تضامنهم مع القضية الفلسطينية، حتى لو كانت هذه الأعمال لا تتّصل بالأحداث الجارية في فلسطين، أو حتى لو لم تكن ذات طابَع سياسي، ما يُعدُّ خرقاً فاضحاً في حرية الفنّانين وتدخُّلاً صريحاً في توجّهاتهم الشخصية، إذ يجري وضْع اشتراطات مؤدلَجة أمام المتقدّمين للحصول على الدعم من الميزانية التي تصرفها الدولة الألمانية لإبقاء هذه الصورة لمدينة برلين الحرّة والفنّية، والتي تسوقها حول العالم، وتجذب باستخدامها الفنّانين والسيّاح.

فعلى سبيل المثال، كان مجلس الشيوخ نفسه قد أعلن، منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إيقاف الدعم عن فرقة "عيون" الفنّية، بعد امتناعها عن إلغاء أمسية تضامن مع الفلسطينيّين، بمشاركة مجموعة "الصوت اليهودي للسلام العادل في الشرق الأوسط"، في الرابع من الشهر نفسه. وكان مسوّغ مجلس الشيوخ في قراره أنّ مثل هذه الفعاليات تُعتبر "مشحونة وسياسية أكثر من اللازم".

بات تمويل المشاريع يستند إلى تعريف جائر لـ"معاداة السامية"

وفي محاولة لإضفاء صبغة أخلاقية وتشكيل صورة قانونية شاملة للمنع والتشهير الجاري، اختار مجلس شيوخ المدينة أول من أمس تبنّي تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" لمعاداة السامية، والذي يجري اقتراحه على مؤسَّسات الدولة والمعاهد والجامعات لاتخاذ إجراءات احترازية لمنع نشاطات وأعمال فيها "شبهة معاداة السامية"، بينما يرى المشاركون في المظاهرة في هذا التعريف تعارُضاً مع حرية التعبير والحرية الإبداعية، لأنه يجعل "إسرائيل" فوق أي محاسبة أو نقد، وأن تبنّي هذا التعريف ستكون له آثار مدمّرة للمشهد الثقافي في برلين، على حدّ تعبيرهم.

وينصّ التعريف، الذي أصدره التحالف سنة 2016، على أنّ "المحرقة التي هزَّت الحضارة الإنسانية تبقى في فظاعتها التي ليس لها مثيل في التاريخ ذات دلالة ومعنى في كلّ الأزمان"، ويتضمّن التعريف أحد عشر بنداً من المفروض أن تساعد على الكشف وتحديد الأعمال المعادية للسامية. لكن الملفت أن ستّة بنود منها تتعلّق بشكل خاص بـ"دولة إسرائيل"، و"حقّها في الوجود"، ووضع محدّدات صارمة لانتقاد سياساتها.

هذه النقاط كانت السبب الذي وضع هذا التعريف دائماً موضع اعتراض ونقد من جهات عدّة حول العالم، بما فيها مؤسّسات يهودية وفاعلة في محاربة "معاداة السامية"، ففي نيسان/إبريل من السنة الماضية، حذّرت 104 منظّمات لحقوق الإنسان والحقوق المدنية الأمم المتّحدة من استخدام أو تأييد هذا التعريف لمعاداة السامية. وفي 2020، وقَّع ما يزيد عن 650 أكاديمياً في كندا، بمن فيهم أعضاء أكثر من 150 كلّية يهودية، عريضة لمنع تبنّي الجامعات والمؤسّسات الكندية هذا التعريف. وقد جاء في رسالتهم: "بلا شكّ، فإنّ معاداة السامية هي تهديد خطير ومتزايد لليهود... لكن هذا التعريف الذي تمَّت صياغته بصورة متعمَّدة للمساواة بين الانتقادات المشروعة التي تُوجَّه لإسرائيل والدفاع عن حقوق الفلسطينيّين مع معاداة السامية"، بل إنّهم يرون هذا التعريف مضرّاً بالصراع الحقيقي ضدّ معاداة السامية؛ إذ إنّ "هذا الخلط المجحف يُضعِف النضال الفلسطيني نحو الحرية، وكذلك الصراع العالمي ضدّ معاداة السامية على حد سواء".

تحذيرات من آثار مدمّرة لتبنّي التعريف على المشهد الثقافي

هذا الخلط المتعمَّد بين الاعتراض على سياسات "إسرائيل" تجاه الفلسطينيّين ومعاداة السامية، كان السبب الداعي إلى خروج عشرات الفنّانين للتظاهر يوم الاثنين الماضي أمام مجلس الشيوخ، وفي مقدمتهم مجموعات فنّية معروفة مثل: "مجلس الفنون"، و"ائتلاف المشهد المستقل"، و"الرابطة المهنية للفنّانين التشكيليين - برلين"، و"الرابطة الإقليمية للفنون المسرحية الحرّة - برلين" وغيرها.

وقبل ذلك بأيام، أعلن هؤلاء عن اعتراضهم على الوتيرة المتزايدة مؤخّراً في ألمانيا من الرقابة والإسكات والطعن والتنحية لكلّ من يدعو إلى تحرير الفلسطينيّين والدفاع عن حقوق الإنسان، واتَّهموا مؤسّسات الدولة والجامعات بمحاولتها إسكات الأكاديميّين والنشطاء والفرق الفنّية التي تنتمي إلى الحركة العالمية المتعاطفة مع فلسطين.

وقد شدّد المتظاهرون على أنّ هذه الإجراءات لا تخدم سوى الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تزداد شعبيتها مؤخراً في ألمانيا بصورة مُقلقة، وعلى رأسها "حزب ألمانيا البديل" الذي حلَّ ثانياً في انتخابات مجلس ولاية هيسين الأخيرة، بل وحصل مرشَّحه في مدينة بيرنا شرق ألمانيا على منصب رئاسة البلدية لأول مرة في تاريخ الحزب.

وقد جاء في البيان الذي دعا إلى المظاهرة أن "الجهات الحكومية تمارس هذا الإسكات والاضطهاد بدعوى محاربة معاداة السامية، لكنّها بإسكات أصوات الملوّنين واليهود المعادين للصهيونية والمسلمين والعرب والمثليّين وكلّ التوجّهات المجابهة للاستعمار، إنّما تزيد من قوّة اليمين المتطرّف الذي طالما رأى في هذه المجموعات عدوّاً"، وأكدّوا أنّ "محاربة معاداة السامية تكون بمحاربة العنصرية والفاشية، ويجب أن تضمّ محاربة كلّ أشكال التمييز، والدفاع عن حرية التعبير والحرية الإبداعية والثقافية وحرية التضامن الدولي".

كما أظهرت فيديوهات تناولها النشطاء على حساباتهم رئيس "ديوان الثقافة والتضامن المجتمعي" جو شيالو وهو يتحدّث إلى الجموع، بعد أن صعد على المنصة وسط صياح واستهجان أغلب الحاضرين، موجّهاً كلمات وصفها النشطاء بالسُلطوية، حيث تحدّث بلهجة متعالية، يأمر المتظاهرين أن يستمعوا له وألّا يصرخوا في وجهه، ثم غادر المنصّة دون التعليق على أي شيء بخصوص المسألة، وهو ما دفع المتظاهرين إلى تشديد الدعوة لتحقيق مطالبهم ابتداءً بنشر عريضة للتوقيع والدعوة للإضراب الشامل في كلّ المؤسسات الفاعلة في النشاط الثقافي يومَي أمس وأول أمس.

المساهمون