العرب في البيروقراطية العثمانية

العرب في البيروقراطية العثمانية

18 سبتمبر 2022
رسم للسلطان محمود الثاني وهو يُغادر "جامع بايزيد" في إسطنبول، 1837 (Getty)
+ الخط -

لم يكن المثقّفون العرب يعرفون الفارسية، وبعضهم كان يعرف التركية بالصدفة. لهذا السبب، جرى الاهتمام بجلب الطبقة المتعلّمة العربية (الأدباء) إلى تعلُّم اللغة التركية من خلال التعليم والبيروقراطية في القرن التاسع عشر. استمرّ طلّاب المدارس العثمانيون المجتهدون، الذين يعرفون اللغة العربية جيّداً، في التقليل من شأن العالم العربي.

يوجد العديد من العلماء والشعراء والمفكّرين من أصل فارسي في المجتمع الذي نسمّيه الحضارة الإسلامية. في الواقع، بالنسبة إلى أتراك آسيا الوسطى، كانت اللغة الفارسية هي لغة الحضارة خلال القرنين 12 و13. في الحقبة الحميدية، دخل نظام عبد الحميد في صراع مع القومية العربية الليبرالية، على الرغم من طابعها الإسلامي، وهذه هي القومية العربية التي كان "قصر يلديز" يروِّج لها.

لكن عبد الحميد، من ناحية أُخرى، كان يشكّل مجموعة معارضة كحاكم وظَّف معظم الموظّفين المدنيّين العرب في البيروقراطية، سواء في مركز الحكومة أو في الولايات. وفوق ذلك، كانت إسلامية يلديز الرسمية تمنح الأتراك الدور القيادي والمتفوّق. يجب أن نشير إلى نقطة واحدة؛ في البيروقراطية، جرت مصادفةً توظيف قضاة آشوريين في روملي مقدونيا أو مسؤولين أرمن أو مسؤولين يهود وحتى من السامريّين في سورية. على الرغم من الصراع بين الإدارة الحميدية والمفكّرين والمثقّفين العرب، وإقالة رجل دولة توافُقي مثل مدحت باشا، إلّا أنّ الإدارة والرقابة الحميدية لا يمكن أن تكون مُطبَّقة على العرب كما كانت على الأتراك.

دخل نظام عبد الحميد في صراع مع القومية العربية الليبرالية

كلُّ شيء مطبوع في مصر يمكن تهريبه بسهولة إلى البلاد وتوزيعه. لم تكن القومية العربية فيدرالية في ذلك الوقت. ومع ذلك، لم تأخذ الإدارة العثمانية طلبات قبول اللغة العربية بعين الاعتبار، بل على العكس، جرى تعليم اللغة التركية للشباب العربي بشكل مكثّف أكثر فأكثر مع تزايد عدد المدارس. وفوق ذلك، اضطرّت النخب العربية في الإدارة المركزية إلى اختيار وظائف استشارية فقط. في الواقع، كان من الممكن أن تكون طريقة ناجحة لحلِّ النخبة العربية من خلال تعيينهم في البيروقراطية العثمانية. ومع ذلك، لم يجرِ جلب أبناء النخبة من الوجهاء العرب فحسب، بل أيضاً الشباب من الطبقات المتوسّطة والدنيا إلى الفصول الخاصة في مدرسة العشائر، التي تأسّست في إسطنبول، وكذلك في مدرسة غلطة سراي ومكتب الملكية (درس في المدرسة الملكية مائة وسبعة وستّون شاباً عربياً بين عامي 1901 و1907).

لفتت الأشغال العامّة التي بلغت ذروتها مع سكّة حديد الحجاز من جهة، والاستعمار الصهيوني في فلسطين من جهة أُخرى، انتباه العرب إلى نقاط أُخرى حول الأتراك. على الرغم من المؤسّسات التعليمية الأجنبية، كانت المدارس التركية تتزايد أيضاً. في حلب فقط كانت هناك مدرسة ثانوية واحدة، وعشرون مدرسة إعدادية. في دمشق، كانت هناك مدرسة ثانوية واحدة وثلاث مدارس إعدادية تعمل في ثمانينيات القرن التاسع عشر. يُعتبر إنشاء "كلية الطب" في دمشق و"كلية الحقوق" في بيروت بداية مهمّة. تجاوَز هذا العدد المائةَ في بداية الحرب العالمية الأولى. في الصحافة، كان هناك حوالي ستّ صحف رسمية تركية، على الرغم من أنّ لغات الصحافة الفعّالة كانت العربية والفرنسية. وبصرف النظر عن دعاية الصحافة الرسمية، فقد ربحنا زعماء دينيّين أيضاً؛ ومنهم أبو الهدى الصيادي من حلب.

في نهاية الإمبراطورية، بقي تراث ثقافي مهمّ يعتمد على اللغة التركية. تجدر الإشارة إلى هذا كثيراً؛ كانت القومية العربية والمركزية العثمانية الرسمية في انسجام خلال الحقبة الحميدية. ومع ذلك، كان من الواضح أنّ هذا الانسجام يحتوي على عناصر انفجار في المستقبل القريب. اختار "الاتحاد والترقّي" طريقة التوافق مع العرب، مثل كل العناصر الأُخرى، في البداية. في السنة الأولى من المشروطيَّة، جرى تشكيل "لجنة الأخوّة العربية العثمانية" بين العرب والاتحاديّين. لكن هذا المجلس سيُحل سريعاً وستتوتّر العلاقة بين الاتحاديين والقادة العرب. الاستثناءات الوحيدة هي عائلة جنبلاط والدروز اللبنانيون الذين ما زالوا يتعاطفون مع "الاتحاد والترقّي".

عيّنَ معظم الموظّفين المدنيّين العرب في البيروقراطية

دخلت الحياة السياسية العربية مرحلة جديدة مع المنظّمات العربية القومية التي تهدف إلى بناء فيدرالي، ولديها الآن برنامج في المشروطية الثانية. ومع ذلك، لم يتمكّنوا من إظهار شخصية نشطة وواسعة النطاق مثل قومية البلقان. لم يكن شكل التنظيم والنشاط مختلفاً فحسب، بل كان ضعيفاً أيضاً. ومن بين التنظيمات العربية، تُعتبر "القحطانية" بقيادة عزيز المصري و"الفتاة" التي تشكّلت في باريس عام 1911 أهمّها.

من أجل التوافق مع العرب، أظهر الاتحاديون بشكل خاص قربهم من القحطانية. أصدروا عفواً عن المثقّفين العرب وزعماء العشائر الذين كانوا في المنفى بالعاصمة وغيرها وأعادوهم إلى مكّة. أرادت مجموعة القحطانية نظاماً ملكياً مزدوجاً على غرار النموذج النمساوي المجري. لم يجرِ قبول هذا المشروع. أَعلن الاتحاديون أنّ اللجنة تخريبية وغير قانونية، واضطرّ عزيز المصري وأصدقاؤه إلى طلب اللجوء في القاهرة منذ عام 1912. كما دعت "جمعية الفتاة"، التي كانت فعّالة في ذلك الوقت، إلى عقد المؤتمر القومي العربي في باريس عام 1913. اختار الاتحاديون طريقة الاتفاق لتحييد المؤتمر وأرسلوا مجموعة تمثيلية.

جرى الاتفاق على مبادئ مثل اللغة العربية كونها اللغة الرسمية، وتوظيف العرب في الخدمة العسكرية والمدنية بنسبة معيَّنة (سيُدير الحكّام العرب خمس ولايات بأنفسهم)، وأن يكون هناك على الأقلّ ثلاثة وزراء عرب في الحكومة العثمانية. وبلا شك، في نهاية المؤتمر لم يقم الاتحاديون بأيّة محاولة لتنفيذ هذه القرارات ونسوا الأمر. لقد وصلت السياسة العربية للجنة "الاتحاد والترقّي" إلى طريق مسدود، بسبب مثل هذه المناورات السياسية الخرقاء، وليس بسبب تيارات مثل الطورانية. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن العنصر العربي لم يخض مقاومة مسلَّحة ومستقلّة حتى الأيام الأخيرة للإمبراطورية، باستثناء انتفاضة الحجاز التي أثارها ووجّهها لورانس.

يجب أن نتذكّر هذه النقطة أيضاً هنا. أصحاب الذاكرة التاريخية الضعيفة يعمّمون الثورة العربية في الحرب العالمية الأولى، بقيادة لورانس، التي أرادت تعيين الشريف حسين، ويرسمون العالم العربي العثماني على هذا الأساس. ومع ذلك، لم تشارك الأردن الكبرى وفلسطين وسورية في هذه الحركة. في كوت العمارة، لم يدعم العرب بريطانيا والشريف حسين، بل كانوا على اتصال مع القوّات التركية في مدنهم ومناطقهم. بعد الانتفاضة اليمنية عقدت قوّات الإمام اتفاقاً مع عزت باشا، لذلك فضّلوا البقاء في الإمبراطورية التركية رافضين الاستفزاز الإيطالي أثناء الحرب.

استمرّت المقاومة في طرابلس الغرب (ليبيا). استمر الأمير شهزاده فؤاد أفندي، الذي بقي هناك، في تنظيم القوات لفترة. وشوهد أن الأتراك كانوا مدعومين معنوياً في مصر وفي جميع أنحاء المغرب العربي. كانت مصر هادئة، لكن المغرب الكبير لم يكن كذلك. لم يعد هناك تمرّد متوتّر في شبه الجزيرة، لكن طبيعة حركة الشريف حسين كانت واضحة وحلمها كبير ومأزقها هو طريقها التاريخي الذي بلا مخرج.


* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا

** النصّ فصلٌ من كتاب "حقائق التاريخ التركي الحديث" الذي صدرت نسخته العربية حديثاً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"



بطاقة

تتنوّع اشتغالات المؤرّخ التركي إلبَر أورطايلي (1947)، حيث يهتمّ بتاريخ المدن، وتاريخ المؤسّسات، والتاريخ الثقافي، بالإضافة إلى دراساته حول الدبلوماسية. معروفٌ عنه إتقانه عدّة لغات من بينها العربية. من أبرز مؤلّفاته: "التاريخ الإداري لتركيا" (1979)، و"التأثير الألماني على الدولة العثمانية" (1980)، و"صفحات من إسطنبول" (1986)، و"السلام العثماني" (2004)، و"كيف يبني الإنسان مستقبله؟" (2007).

المساهمون