الرجوع إلى حضن الأم

10 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سبعة أشهر من النزوح، عدت إلى بيتي في خانيونس بعد انسحاب جيش الاحتلال، ووجدت البيت متضررًا جزئيًا، لكن معاناتنا استمرت بسبب نقص المياه.
- خلال الأسبوع الأول، قضينا وقتًا طويلاً في تعبئة المياه والمشي بين الركام، وتعرضت القرية لقصف شديد، مما دفع أمي لطلب النزوح مجددًا، لكنني رفضت.
- خانيونس أصبحت مدينة أشباح مليئة بالدمار، ورغم شعوري بالغربة، حاولت التأقلم والبحث عن ذكرياتي الجميلة، مؤمنة بأن غزة ستشفى وتقاوم.

بعد تجربة نزوح دامت لسبعة أشهر عشتها بين خيم النازحين واللاجئين في رفح، ومن ببت لبيت ومن بيت لخيمة، هي التجربة الأسوأ في حياتي من التشرد والقهر والمعاناة، وستبقى خالدة في الذاكرة إلى الأبد، قررتُ العودة الي بيتي بعدما أعلن جيش الاحتلال الانسحاب من مدينة خانيونس، شعرتُ وقت الإعلان بفرحة ناقصة وخوف شديد من الرجوع إلى بيتي خشية أن يكون مقصوفاً، وبالتالي قد تهدّم وأن أصبح بلا مأوى. كان هذا الخوف يراودني منذ عدوان 2014 بعد قصف بيتي، واستشهاد والديّ العزيزين رحمهما الله، ولم يفارقني في كل يوم من أيام هذه الحرب الدائرة، لا سيما أن خانيونس مثل الكثير من المناطق تعرّضت طوال الحرب لقصف عشوائي. وخلال نزوحي إلى غرب شمال مدينة رفح، كنت أشاهد أعمدة الدخان تتصاعد من جهة خانيونس، وأسمع أصوات الانفجار تهز المدينة. يقع بيتنا في قرية عبسان الكبيرة بجوار خانيونس. 

في منتصف إبريل/ نيسان، لملمتُ أمتعتي وكراكيبي وحصتي من الكابونات والمعلبات وما تسوقته من سوق رفح من مواد تموينية بالإضافة لمواد تنظيف تمهيداً للرجوع.

وصلنا إلى البيت، أنا وعائلتي، الساعة العاشرة صباحاً سعداء، فالبيت قد تعرض لأضرار جزئية فقط، بمعنى أنه بقي قائماً لم يهدم. سجدت لله الذي حمى البيت وشكرته على هذه الأضرار الطفيفة وأنه صالح للسكن.

قمنا بتنظيف البيت على مدار ثلاثة أيام من الزجاج والركام والغبار بالقليل من المياه المخزّنة منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبدأت معاناتي بسبب عدم توافر المياه الصالحة للشرب ومياه الاستخدام المنزلي، تتفاقم يوماً بعد آخر. وبدأتُ أنا وأختي بالبحث داخل قرية عبسان الكبيرة حيث منزلنا، والمشي لمسافات طويلة للحصول عليها لقضاء حاجتنا منها بعد تدمير الاحتلال القرية والبنية التحتية لها. ويمكن للمرء أن يتخيل انتظارنا يومياً لساعتين وثلاث ساعات في طابور طويل لتعبئة المياه. لا يختلف الأمر كثيراً هنا في تعبئة المياه عما كان عليه الوضع في مخيمات النزوح في رفح. وهكذا مضى أسبوعي الأول بين تعبئة المياه الصالحة وغير الصالحة والمشي بين الركام والبيوت المدمرة، حيث كان الناس ينصبون الخيام فوق ركام بيوتهم التي هدمها الجيش.

رائحة الدم تخرج من تحت ركام البيوت المدمرة، التي ما زال ساكنوها الشهداء تحت الأنقاض

أما عن المساء فهناك قصة أخرى. في بداية الليل عند اقتراب الساعة السابعة، أشغّل الراديو لمتابعة الأخبار والتحليل السياسي والعسكري للحرب على غزة لأكثر من ساعتين، وعند الساعة العاشرة مساء يبدأ النُّعاس يتسرَّب إلى عيوني. 

هناك سكون لم نعتد عليه خلال الأشهر السبعة السابقة ممزوج بالخوف لعدم توافر الكهرباء والعتمة التي تسود القرية يخترقه صوت الكلاب التي تخرج للنباح كل منتصف ليل، وكأنها تريد إيصال رسالة لنا بوجود خوف خارج حدود المنزل فلا نغادره.

كنتُ أنتظر الصباح لأشعر بالأمان، ولكن ما أن يبدأ النهار حتى نسمع صوت القصف المدفعي وصوت الرصاص على حدود القرية. في أحد الأيام، كان هناك قصف شديد للقرية ووصل القصف لبيت بجوارنا على مسافة خمسين متراً، إذ أصابته قذيفة مدفعية "قذيفة عمياء"، وقتها طلبت مني أمي أن ننزح مرة أخرى ونسير باتجاه مواصي، قرب مدينة خانيونس، على اعتبار أنها منطقة آمنة، خوفاً علينا. في الحقيقة، لا توجد مناطق آمنة في كلّ قطاع غزّة.

رفضتُ وبشدة الخروج والنزوح من بيتي مرة أخرى، واعتبرتُ أن الموت أينما ذهبت موجود، وكل غزّة غير آمنة، وطلبت منها هي أن تذهب عند أختي المتزوجة في المدينة، في الغرفة الوحيدة التي نجت من البيت، وصارت هي كل البيت، حيث تعيش فيها أختي وعائلتها المكونة من سبعة أفراد. الناس تصلح ما يمكن أن يكون ملائماً من البيت المهدوم وتعيش فيه، لأنها تريد أن تكون قرب بيوتها. في المدينة، معظم البيوت تضرّرت بشكل كامل وأصبحت غير صالحة للسكن. 

هنا مدينة خانيونس المدمرة، التي كانت قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول تعجّ بالحياة والناس، وحتى مع بداية الحرب كانت ملجأ للنازحين من قطاع غزة واعتبرت منطقة آمنة، ولكن للأسف لم يعد هناك مدينة، بل أصبحت كمدينة أشباح. 

الدمار والخراب في كل مكان، ورائحة الدم تخرج من تحت ركام البيوت المدمرة، التي ما زال ساكنوها الشهداء تحت الأنقاض حتى الآن.

أسأل نفسي دائماً، ماذا كان يفعل هؤلاء الناس في ساعاتهم الأخيرة. هل كانوا يتناولون الطعام سوية؟ أم كانوا مجتمعين يؤنسون بعضهم بعضاً من الخوف؟ أم كانوا نائمين ينتظرون أجلهم تحت القصف المستمر؟ ما ذنبهم؟ وماذا لو كنتُ أنا مكان هؤلاء الناس، هل سيقصف بيتي مرة أخرى، ولا يستطيع أحد انتشالي من تحت الأنقاض، وستفوح رائحتي وتزكم أنوف المارين من جانب ركام البيت؟ وهل سيكتبون على بقايا البيت: "هنا ما زال يرقد جسد ريما؟". أفكار سوادوية تهيمن على عقلي وفكري، ولكني أيضاً أعلم أن الخروج من المنزل قسرياً أشبه بالخروج من حضن الأم رغماً عنها.

لا أنكر أنني عندما رجعتُ للمنزل شعرت بأنه غريب عني، وأن شيئاً ما يدعوني للخروج منه. هذا الشعور لم أجعله يلازمني، فبدأت بالبحث عن ذكرياتي وأشيائي الخاصة جداً، التي تحمل إشارات جميلة لحياتي، مثل كرة الثلج التي كلما شعرت بالضيق أذهب إليها وأستمع لموسيقاها الخاصة التي تأخذني لعالم بعيد عن هذا العالم البشع، أحاول التأقلم مع هذه الحياة التي لا تشبهني من فتاة تحبُ نفسها وتحب الحياة لفتاة تنتظر الموت أو انتهاء الحرب. 

في الحرب، فقدتُ أشخاصاً أعزاء على قلبي، تربطني بهم حياة أسرية، حتى أنني فقدت الحب في هذه الحرب، وأصبحت غريبة الأطوار والمشاعر. حاولتُ كثيراً أن أتخلص من هذه المشاعر السوداوية التي خلّفتها الحرب ولم أفلح. السؤال الذي يظل يراودني: هل سننجو؟ وهل سأتمكن من نسيان ما شعرت به طوال فترة الحرب؟ وهل ستكون صديقاتي وأصدقائي بخير؟ أم أننا سنموت في حضرة حب المدينة والبلد؟!

ومع ذلك، فإن غزة التي أحبها هي تلك العروس التي اغتُصِبَت في ليلة فرحها أمام مرأى العالم، ولم يحرك أحد ساكناً. ستُشفَى وتقاوم وتطالب بحقها، وستبقى مرفوعة الرأس لأننا اعتدنا عليها كذلك.

* كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون