"التلفزيون العربي": نسائم الربيع

25 يناير 2023
داخل استديوهات "التلفزيون العربي"
+ الخط -

 لم يعد العربيّ المُتولِّد من نَسمات الرّبيع العربيّ هو نفسه الذي عاش طيلة العقود السّابقة تحت وطأة إعلام حكوميّ مُدَجّن، تقتصرُ محتوياتُه التلفزيّة على تمجيد "الزّعماء" والإشادة بإنجازاتهم بعدَ الإصغاء إلى توجيهاتهم. ولن يقنعَ هذا العربيّ بما يُقدّمه الإعلام التقليديّ من قوالب بالية وطُرق روتينيّة في التواصل المرئيّ، فضلاً عن مُحتوياتٍ مكرّرة تفتقد إلى التأصيل الفكريّ بسببٍ من الرّقابة الصّارمة والنَّفَس التبجيلي.

لذلك، كان ظهور "التلفزيون العربيّ"، سنة 2015، شبه "ضرورة تاريخيّة"، أملاها عُمق التغيير الذي أسفر عنه "الربيع"، فراعى بمُقتضاها القطائع التي حدَثَت في آفاق الانتظار والتي تشكّلتْ بعد سقوط الأنظمة البائدة وقيام "كون تواصليّ" مختلفٍ، هيمنَت عليه الشبكات الاجتماعيّة الحرّة، رديفةً للإعلام الرسمي ومنافسةً له، وسيطرت على نسيجه اليومي آليات الذّكاء الاصطناعي، فتغيّرت خارطةُ الوعي وأنماط اشتغاله بعد أن تَسارعت وتائر نقل المَعلومات وتراكَمت طبقاتُها. 

أمام سلسلة هذه التحدّيات التي لا تنقضي، كان على "التلفزيون العربيّ" أن يتحرّك لرفعها ضمن رؤية معرفيّة متكاملة، هدفها تفكيك خطاب المركزيّة الأوروبيّة ونزع الرّوح الاستعماريّة المتلبّسة بالإنتاج الفكريّ، عربيِّهِ وغَرْبيّه، إضافةً إلى قراءة التراث العربي-الإسلاميّ نقديّاً، دون هضمٍ لحُقوقِه ولا استلابٍ في مُقدّساته. وفي ذات الآن، فتْحُ المجال رحباً للعقل العربيّ وإنتاجاته الفكريّة والإبداعيّة، وليست بالعزيزة ولا النّادرة، كلّ ذلك في توضيب مَرئيّ مُعاصر جذّاب، يشدّ مُشاهداً باتت "أعينُه مفتوحة" ووَعيُه أحدَّ.

وهكذا، غدا "التلفزيون العربي" روحَ هذه الرؤية المعرفيّة صورةً وصوتاً، ينقلُها مَلمَحاً وصدىً، حاملاً عبر الأثير مشاغلَ عرب ما بعد "الربيع" واهتمامات مثقّفيهم ومُبدعيهم وإعلاميّيهم، وقد ظهروا جليّاً وأخيراً بعد ما أتاحت لهم هذه الشاشة السّخيّة أبوابَها وبعد أن أُزيحت وجوهُ السّلط البائدة وأبواقُها التي طالما ملأت قنوات الإعلام المحليّة بمحتويات التدجين والتمجيد في تكرير للا-ثقافات السّلطات وخَوائها.

فعلى امتداد السّنوات السّبع الماضية، وهي كَسَنَواتِ يوسفَ سِمانٌ ثريّةٌ، صَمد "التلفزيون العربيّ" أمام رياحٍ عاصفة، بفضل تصوّر فكريّ لن يُقدَّر حقّ قَدْره إلّا من خلال استحضار ضراوة كفاحه اليوميّ لرفع رهانات التحوّل الرقميّ وضغط شبكات التواصل والامتدادات الأيديولوجية والحزبيّة التي طالما سمَّمت نتائج الفِكر وأنْظارَه. كلّ ذلك دون تنازلٍ عن عمق المحتوى الثقافيّ وعَصريّة الأداء السمعي-البصري ومُراعاة أعراف الأسَر العربيّة ومرجعياتها القيميّة، ودون تأثّر بمقولات الغَرب وقد انكَشف تهافُتها، ولا سقوطٍ في التهليل لزعامات موهومة، أو تردٍّ في الضّحالة التي تهوي إليها بعض البرامج العربيّة بذريعة الاستجابة لمَطالب الجمهور، وإن كانت مُسِفّةً. 

ففي غمرة هذه التحدّيات، وهي جمَّة خانقة، يبثّ "التلفزيون العربي" من أرض عربيّة مِعطاء، مستثمراً في الثّقافة دون وَجل ولا تهيّبٍ، يَعرض للجميل من أعْطافها، ولا يتوانى عن نقد ما يجبُ رَتقُه فيها؛ نقد ناعم تنهض به عقولُنا ومواهِبُنا، في أرْيحية، من داخل منظومَتنا، فلا تُسقطه فئات المستغربين من مَحابرهم الأوروبيّة وأرائكهم المَدفوعة، بل ينطلق من تمثّل للواقع العربيّ بمصاعبه وحقائقه وهواجس شعوبه التي تستأهل من الحِرفيّة الإعلاميّة أنصَعَها.

استثمار كبيرٌ، كِبَرُه بقَدْر خطورة التّحديات ونَبالة الأهداف: تَحرير المُشاهد العربيّ من أوهام ضَعفه وتبعيّتِه، وتوعيته بأنه قادرٌ، كأقرانه في التّاريخ، على صنع التّاريخ وإعطائه معنًى لا يُخالف قيمَ "الرّسالة" ولا يَجْحد تحوّلات الواقع وحركته الدائبة، يعي كونيّة القِيَم ونسبيّتها، فيبني مع لِداتِه من بني الإنسان، فضاءاته الإعلاميّة، يَنحتها بيَدَيْه في ثقة وبَهاءٍ، كما يفعل "التلفزيون العربيّ" حين يعرض لوحاتٍ من هذا البهاء الذاتيّ الذي تَزخر به عُقول العَرب وأرضُهم ومُجتمعاتُهم الخَصيبة. عطاء لن تضنَّ به هذه العقول في العقود القادمة، نُشاهده ونَسمعه في حُلّة تليق بما تقدّمه أعرق المؤسسات الإعلاميّة؛ عطاء ينساب من شاشة صُغرى تنفتح على العالَم الكبير لتُشيد وعياً وليداً بهِ وبِرهاناته التي يفكّكها في جرأة وثقة، ويكفي هذا ثمرةً للربيع العربي ونَسائمه.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون