"الأدب الأعجمي": أحرفٌ عربية بقيت في الأندلس

09 مارس 2023
من الندوة
+ الخط -

لا يُذكر موريسكيّو الأندلس إلا مقرونين بمحاكم التفتيش؛ إنها الشرّ المستطير الذي عَرّف مُسلمي ما بعد السقوط وبه اكتوت جباهُهم؛ شرٌّ تعدّدت محظوراته بقوة القانون: يحرم عليهم التحدّث بالعربية، وصلاتهم ممنوعة، وغلق أبواب الدور في أيام الجمعة محظور كذلك خشية اجتماعهم للصلاة، وتسمية أبنائهم أسماء عربية محظور أيضاً، وبالمجمل كلّ عادة تشير إلى دينهم وأصلهم تحرم عليهم ممارستها. هكذا عاش أحفاد الفاتحين في جو من الترصّد والرقابة، بعد أن وُعدوا مسبقاً بالأمان وبحُرية ممارسة شعائرهم.

هذا كله كان بالطبع قبل تنصيرهم مجبرين، ثم أخيراً مطرودين خارج شبه الجزيرة الإيبيرية. إنما ليس هذا الجانب السوداوي وحده ما يشكّل قصة "المدجّنين"، وهو اسمهم الأول الذي عُرفوا به، فهناك ما يمكن حكيه عن مقاومتهم لهذا كله، وقد اتخذوا الاستخفاء سبيلاً أمام مقصلة لا ترحم، وفي قلب هذه المقاومة - عبر عشرات السنين - التشبّث بما بقي من العربية التي أوشك اندثارها أن يكون حتمياً في زحام الخوف والرعب والمراقبة، بل والأعجب كتابتهم للغات الإسبان المختلفة بحروف عربية، في ما أطلق عليه تاريخياً "الخيمياديّة". وعن هذه الحيلة تحديداً والأدب الموريسكي المنتج بها دارت المحاضرة التي عُقدت في "المعهد الإسباني" (ثربانتس) بالقاهرة، الأحد الماضي، وقدّمتها المصرية رشا عبّودي والمغربية أشواق شَلْخَة، بعنوان: "الأدب الأعجمي الأندلسي: الأدب المنسي".

تلفت عبودي – وهي تشغل مديرة مركز الدراسات الثقافية الإيبيروأميركية في "جامعة القاهرة" – النظر إلى أصل "الخيميادية" وهي اللغة الأعجمية، وبحسب المراجع هي لغة قشتالية أو أرَغونية أو قَطَلونية، لكن مكتوبة بحروف عربية. أما "الخيميادو" فهو الفرد من أجيال متقدمة من العرب المسلمين الذين تبقّوا في بلاد الأندلس بعد سقوط غرناطة العام 1492م. أشارت كذلك إلى أن الخيميادو هم الموريسكيون، بيد أن كلمة "الموريسك" تصغير للفظ "مورو" الذي "كان صفة لغير المسيحيين الكاثوليك، ثم أصبحت له مع الوقت دلالة سلبية وتحقيرية للعرب".

جانب مهمّ في دراسة تاريخ العرب والإسبان المشترك

هكذا كانت أول حلقة في التمييز ضد هؤلاء المسلمين هي "تسميتهم" ذاتها، تلتها حلقات أخرى أشد رعباً، منها مثلاً قرار العام 1567م الذي "قضى بمنع ملبسهم وأغانيهم ورقصهم وعاداتهم، مما أدّى إلى ثورة البشرات في العام التالي"، على ما تشرح عبّودي.

أفرزت هذه الأجواء المضطربة وضعاً تاريخياً صعباً، كان له أثره في أن يحيا الموريسكيون حياة مزدوجة، إحداهما مسيحية في العلن، وأُخرى إسلامية في الخفاء. وبسبب هذا الازدواج على طول السنين اجتُثّت اللغة العربية، وإنْ بقيت حروفها وبعض كلماتها حية في نفوس البعض، وبها أُنتج ما عرف بأنه "الأدب الأعجمي".

تلتقط أشواق شلخة – وهي أستاذة في "جامعة محمد الخامس" بالرباط – هذا الخيط، لتقول إن ما دعا الموريسكي لاستعمال الحروف العربية في إنتاج كتابات بالإسبانية أو غيرها، رغم اندثار العربية نفسها "أنها طريقة تحميه – بدرجة ما – من محاكم التفتيش، كما أنها كانت محاولته لإعلان التشبث بالانتماء للأمة الإسلامية".

ما يمنح تعليل شلخة وجاهته هو إشارتها بالقول إنّ معظم ما أُنتج من مخطوطات أعجمية في سنوات السقوط الأولى كان ترجمات لمخطوطات وكتابات مشرقية، وهي نفسها عملت على تحقيق مخطوط أعجمي أندلسي هو في الأصل ترجمة لمخطوط "تنبيه الغافلين" لأبي الليث السمرقندي.

نموذج كتابي من الخيميادية - القسم الثقافي
"الفاتحة" بالعربية وترجمتُها بالخيميادية

تمنحنا شلخة وصفاً لخصائص هذه المخطوطات الأعجمية، أُولاها أن معظم ما أُنتج من ترجمات كانت دينية بالأساس، وثانيها أنه في حمّى هذا النقل المستخفي برزت للنور هذه الكتابات الأعجمية خلواً من أسماء مترجميها وناسخيها (وهو ما يؤكد حجتها مرة أُخرى عن الانتماء فضلاً عن الاستتار)، أما أعجب وصف قدمته الأكاديمية المغربية فهو قولها إن "كل الكلمات ذات المدلول الديني في هذه المخطوطات الأعجمية لم تكن تُترجم، وإنما تظهر كما هي عربية فصيحة".

لكن ما الذي يفيد من دراسة الأدب الموريسكي الأعجمي، سواء للإسبان أو للعرب؟ خصوصاً أن الباحثتين تشاركتا الأسى حول انعدام الاهتمام بدراسات الأدب الموريسكي تقريباً في الجامعات العربية، اللهم إلا جامعة الأزهر في برامجها للدراسة الجامعية وبرامج الدراسات العليا.

تجيب عبّودي إن هذا الأدب الخيميادي "قدّم للباحثين من علماء الصوتيات الإسبان خدمات جليلة مكّنت من التعرف إلى طرق نطق الحروف الإسبانية من حيث مخارجها، خاصة وأن اللغة الإسبانية شهدت تغيّرات صوتية هائلة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين".

معظمه كان ترجمات لمخطوطات وكتابات مشرقية

أمّا عربياً، فتنقل عبودي عن باحثين عدة أنهم يرون في الأدب القصصي الموريسكي قيمة أعلى من الشعر، إذ إنه يتناول حكايات ذات أصل عربي أو ينقل مشاهد من الحياة الاجتماعية آنذاك. تضيف كذلك أن الأدب الأعجمي من حيث طبيعته كهجين لغوي وثقافي، يعد ركيزة مهمة في دراسة تاريخنا المشترك نحن العرب مع الإسبان.

وأخيراً اتفقت الباحثتان على أنه عِلم يُخشى اندثاره، لأن انحسار الاهتمام به جامعياً زهّد الطلاب أنفسهم في دراسته، سيما وأن لا مكان له في سوق العمل؛ ومن ثمّ رغبتهما في إبقائه حياً في الأراضي العربية.

وفي هذه النقطة الأخيرة بدا كما لو أن الباحثتين تتوجهان بالكلام إلى فئة خاصة من الحضور في قاعة "المعهد الإسباني"، وجلّهم كانوا من طلبة اللغة الإسبانية في الجامعات المصرية، لتؤكّدا لهم على قيمة العِلم في ذاته، وربما مستلهمين قول شوقي: "اطلبوا العِلم لِذات العِلم/ لا لشهاداتٍ وآرابٍ أُخَر".

المساهمون