الآن وقد أصبح للضمير وجه آخر

الآن وقد أصبح للضمير وجه آخر

20 مايو 2024
شرطة مدينة لاهاي الهولندية تصدّ تظاهرة طلّابية داعمة لفلسطين، 16 أيار/ مايو 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- النص يتأمل في تأثير الحروب على النفس البشرية، مبرزًا الصراع الداخلي والرغبة في الحفاظ على الألم والخوف كتضامن مع المعاناة الجماعية.
- يناقش دور الضمير العالمي والإنساني في مواجهة الأزمات، مشيرًا إلى الانقسام بين من يعيشون الحرب ومن يتأملونها من بعيد، وتأثير ذلك على الوعي الجماعي.
- يُبرز القوة الإبداعية والمقاومة النابعة من الألم، مؤكدًا على أن الحرب تولد لحظات إبداعية وتُعيد تقدير النضال من أجل الحياة والتعبير عن الذات، مع الأمل في انتهاء الحرب وتحويل التجارب إلى إلهام للتغيير.

إذا كانت هناك تهمة تتسلّق جدران النفس وصاحبها، فهي تُهمة الوقوع في الاعتياد؛ اللحظة الخفيفة المتحرّرة من هواجس القلق على من يركضون احتماءً باللّاشيء من الصاروخ، أو باللّحم من الحديد، وكأنّنا نريد أن نقول إنّنا لا نريد أن نعيش بشكل عاديّ، ونحلم بشكل عاديّ، لا نُريد أن نحسّ بشكل عاديّ، نُريد أن نبقى، وفاءً لهم، رازحين أسفل ثقل اللحظة المحمومة بالموت والرعب والخوف من التفسّخ، نريد أن يبقى الذهن مشدوهاً بالتأمّلات القاسية، والخيالاتُ محكومة بتصوّر ما يقترب من واقع هؤلاء، يرتجف عند ارتجافهم ويرتبك عند ارتباكهم، وهذا أضعف الإيمان.

وأمام ذلك كلّه، ثمّة ما يدفع إلى تأمّل الرقم الذي يتزايد يوماً بعد يوم كعدّاد ليوميّات الموت والحرب التي لا تنقضي في غزّة بكل ما فيها من خوف وموت وحرمان، ثمّة عينٌ لا تزال تُحدّق في ساعة احتمالات النجاة بالمناصفة مع الموت والتشظّي والاختفاء في زحام من يشقّون طريقهم إلى الغياب والصور المعلّقة على الجدران، بالاتكاء على ما قاله هيتشكوك يوماً في الرعب: "الضربة لا تُرعِب، ما يُرعِب هو انتظارها". على هذه الفكرة تتمدّد يوميّات الغزّي منذ أكثر من سبعة شهور، تتمدّد بكلّ التغيّرات التي عصفت ببنية النفس البشرية في عالم الثلاثمئة وستّة وخمسين كيلومتراً مربّعاً في غزّة، هناك في تلك البقعة أصبح للحياة منظارٌ جديد، وطريقة أُخرى للإحساس والتأكّد من وجود الأشياء في العالَم في مكانها الصحيح أو ما يبدو كذلك.

والآن، في هذه اللحظة بالذات، وقد أصبح للضمير العالمي معنى آخَر ووجه جديد، يشوبه النقص والتشوّه وجَلْدُ الذات والعجز في أبشع أشكاله، دخَل الضمير البشري واحدةً من أعتى أزماته، أزمة لا تتوقّف عند تعريفه من جديد ولا تغادر مربّع حدوده الأُولى، الأمر الذي يدفع إلى القول إنّ عالَم اليوم، ليس عالَماً جديداً في وجهه السياسي، بل جديدٌ أيضاً في أبعاده الأخلاقيّة والإنسانيّة جمعاء.

الضمير البشري اليوم أمام واحدةٍ من أعتى أزماته

وأمام كلّ ذلك ها هي البشرية تُحاول هذه الأيّام أن تُعيد إنتاج أدواتها في مقاومة الشعور بخذلان الضحيّة وتركها وحيدة تُصارع الوحوش القادمين من أزمان لا نعرفها ووجوه لا نتعرّف عليها ولغة غريبة وقبيحة لا نحبّها، كانت أعظم تجلّياتها مظاهرات الطلَبة في الغرب، هذه الفئة التي تنازلت في العقود الماضية عن قدرتها على الوقوف والتأثير حتى عادت هذه الأيام لتتصدّر المشهد، وكأنها تُريد أن تتخفّف من أحمال لحظة خذلان المقهورين وتَجبُّر العالَم وإمعانه في تزوير الصورة وتزييفها بإعادة ضبط، ولو القليل، من معايير أخلاق العالَم، وكأنّها تُريد أن تقول لهم، لكلّ هؤلاء المخذولين، لسنا سواءً مع من خذلكم وترككم فريسة وحش الزمن الجديد.

وإذا كانت البشرية قد أعادت الطلَبة إلى الواجهة، تعبيراً عن الاعتذار عن سقطاتها الممتدّة على ظهر أكثر من سبعة عقود، فها هي تُعيد إلينا جنوب أفريقيا، بكلّ تاريخها وشقائها ولعناتها المصبوبة على الظُّلم والعنصرية، أعادتها زاهية ومُفعَمة بالرغبة في المواصلة والانتصار، وأعادت نيكاراغوا والبرازيل وكولومبيا وفنزويلا بكلّ شرايينها المفتوحة على التاريخ والألم، من حيث ندري ولا ندري، أعادتهم إلينا وكأنّهم إخوة وأحفاد وأقارب أخفاهم الزمن وأعادهم من جديد.

وفي ضوء ذلك، أصبح لدينا اليوم عالمان، عالم يكتوي بنار الحرب ولهيبها الذي يشوي الوجه والقلب على حدّ سواء، وهو عالم مشغول بفانتازيا النجاة وهواجس فنون الموت مقترباً ومبتعداً بمَرْجَحةٍ سريعة تخطف الأنفاس، وعالمٌ آخَر، بعيد جغرافيّاً عن نار الحرب، يتثاقف بالحرب ويعيد إنتاج صورتها بما يُسعفه ذهنه من قدرة على تخيُّل ما يجري هناك من أهوال، على افتراض أنّ من يرزحون في منطقة العمليات الحربية بضجيجها وظلامها وبردها وأفاعيها المُتراكضة بين الخيام، تتعطّل قدرة أذهانهم على القول والفكر والإبداع، ليترك كلّ ذلك لمن يُشاهدون التلفاز من بعيد ويتدفّؤون على وَهَج ألوان الأخبار العاجلة على الشاشات.

لكنّ هذا كلّه لا يعني سَحْب القدرة على الإبداع من هؤلاء الذين يخزّنون اللحظة كصورة مُؤجّلة للإبداع، بالنظر إلى أنّ هاجسهم الأوّل الآن هو النجاة والفرار بالجِلْد إلى جزيرة من نوم وثير وسقف يقي الساكنين أسفله حرّ الوقت وبرد الانتباه، لكنّها، أي اللحظة المُفعمة بالحرب والموت الشَّرِه الذي لا يشبع ولا يكتفي من ضحاياه ومكلوميه ومصابيه، تبدو الإجابة هنا محض اختيار مدفوع بقوّة الاحتجاج وبالرغبة في التماثُل مع الألم والامتثال له والذّوبان في مجاريه الطويلة. إنها الحرب التي تمنحهم، ولا تمنح سواهم، جوهر الالتقاطات الإبداعية إلى حين يهدأ القلب فيها من قلقه، والحرب من شعلتها، لتستحيل إلى ذاكرة، يقضم فيها مُبدعو الحرب قُوت كتابتهم متى يريدون، وبالطريقة التي يحبّون، لكن الأهم الآن أن تنتهي الحرب.

* كاتب من فلسطين

المساهمون