اعْمُر

اعْمُر

11 مايو 2023
توفيق طارق/ سورية
+ الخط -

كان فتىً قوي البنية، أبيض البشرة، ذا شعر قمحيّ متموّج. كان قرّة عين والدتي، فهو ابنها الأكبر ومَعْقد أحلامها وسعادتها. كنّا نحبّه حبّاً عظيماً ونفخر بجماله وقوّته. ما حدث له كان قبل اندلاع ثورة التحرير بالجزائر.

كنّا نعيش في دُوّار من الدواوير الصغيرة التي لا تُعَد ولا تحصى، المرمية هنا وهناك حيث يعيش الفقراء والأغنياء. كان أفراد عائلتي وأنا نشتغل جميعنا عند العائلات الغنية كي نعول أسرتنا.

عندما بلغ أخي اعْمُر الثامنة عشرة، أُرسِلَ له استدعاء لأداء الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي. كان عليه أن يذهب في الصباح الباكر إلى المكتب المعنيّ ليتم تسجيله وإرساله بعد ذلك إلى الثكنة التي سيقضي فيها الخدمة. استحمّ وقصَّ شعره وغسلت له والدتي ملابسه.

في تلك الليلة، طبخت أمّي الكسكسي من لحم خروف العيد الذي تصدّق به علينا الإمام سي الصالح. كان أخي الحبيب يأكل اللحم ويمازح أمي وهو يقول: "كُلِ اللحمَ، ينبتِ اللحمُ". كانت والدتي تبادله أطراف الحديث وعيناها تتلألآن خوفاً وفرحاً لأنه سيذهب إلى الخدمة العسكرية.

في الغد، خرج اعْمُر مع صديقه الراعي الذي أخرج أغنامه لترعى في المرتفعات المعشوشبة ولكي يقضيا معاً وقتاً طيباً في الهواء العليل. 

كنتُ أنا وأختي الأصغر مني نختبئ في كومة التبن كي لا يبللنا المطر.

فجأةً، احتشدت الغيوم الرمادية في قبّة السماء وأخذت الأمطار تهطل بغزارة. صاح الراعي في غنمه وأشار لها بالنزول وهو يحوم حولها. كان أخي يتبعه. عندما وصلا إلى الطريق التي كان العمّال يعبّدونها في ذلك اليوم ويضعون عليها الزفت، أبرقت السماء في تلك اللحظة وضربت صاعقة رعدية الأرض، سُمع لها صوت انفجار عظيم.

لكنّ الصاعقة ضربتْ جسد أخي اعْمُر فرفعته إلى السماء عالياً ثم هوى بسرعة وارتطم بالأرض. أحدثت صاعقة الرعد غير بعيد حفرةً عميقة في التراب.

عندما سقط اعْمُر على حافة الطريق اصطدم رأسه بحجرة شقّت جبينه من جهة الحاجب الأيسر. هرع إليه رئيس ورشة العمل وعمّاله وتحلّقوا حوله وهم يتساءلون ماذا يفعلون.

كانت آثار احتراق بادية على المنديل الحريري الذي ربطه أخي حول عنقه وعلى ياقة بدلته من الخلف. كان الجميع يكبّر ويحوقل من هول ما رأوا وقد أدركوا أن الفتى قد هلك.

لم أكن أعرف ماذا يعني الموت. لكنني أدركت أن أخي في خطر وأننا سنفقده

في تلك الأثناء، كنتُ أنا وأختي الأصغر مني نختبئ في كومة التبن كي لا يبللنا المطر. كنت قد بلغتُ التاسعة من العمر.

لم نعرف بعد ما حصل لأخي.

لحق الراعي غنمه في ذلك الجو الماطر. كان يصيح بها كي تتبعه إلى الدوّار. كان مصدوماً ممّا حدث لصديقه. وعندما اقترب من بيتنا صرخ: "عمي موسى، عمي موسىǃ (وهو زوج والدتي) اعْمُر ماتǃ اعْمُر ضربته صاعقة الرعد". سمعنا والدتي تصرخ من الحُجرة في منزلنا المبنيّ بالحجارة. كانت هناك، تنسج زربية على المنسج. صرختْ صرخة مدوية ومَزّقتْ خيوط صوف المنسج واخترقتْها لتخرج.

كانت تنسج أغطية لإحدى العائلات الميسورة الحال مقابل الطعام. 

أخذت والدتي تجري بذهول إلى الطريق، حافية. وجدت العمّال حول ابنها، فصرخت فيهم: "غِرتُم منه فقتلتموهǃ". فاجتمعوا حولها وأمسك أحدهم بيدها وأخذ يشرح لها ما حدث. كان الجميع يحاول تهدئتها. هدأت قليلاً، لكن ذلك الهدوء كان من جرّاء الصدمة وما رأته عيناها. كان اعْمُر ملقى على الأرض وأثر كدمة على جبهته التي سال منها الدم. كانت عيناه مغمضتين وقد بدا مستسلماً كل الاستسلام.

وضعه العمال في بُرنس أحدهم وحمله أربعة منهم. اثنان من كل جانب وهُم يُهللون "لا إله إلا الله" بصوت مهيب تقشعرّ له الأبدان، حتى أوصلوه إلى المنزل. كانت والدتي تتبعهم غير مدركة ما حولها.

كانوا يقولون إنه مات، غير أنه لم يمت بعد. 

وطلب الإمام من بعض النسوة طبخ عشاء العزاء وقد تكفّل بما يلزم لذلك. أدخَلوا والدتي إلى منزلنا البسيط، ولم يكن يتكون إلا من حجرتين اثنتين. في تلك الليلة، جاءت سيدة نايليّة مُسنّة لتبيت معنا. قضت الليل وهي تواسي والدتي التي كانت تبكي وتصرخ بين الفينة والأخرى، ثم تغيب في صمت رهيب.

أرسل رجال الدوّار لأهلنا في عرش الأعشاش رسولاً يخبرهم بالحادثة الأليمة ليحضروا الدفن في الغد.

نمتُ بجانب أخي في تلك الليلة. لم أكن أعرف ماذا يعني الموت. لكنني أدركت أن أخي في خطر وأننا سنفقده. كان نومي متقطّعاً وقد تملّكني الخوف الشديد. كنتُ أستيقظ فزعة كلما سمعتُ صراخ أمي. قبل الفجر بقليل سمعت حشرجة أخي. لقد أسلم روحه للتوّ.

في الصباح أخذوه إلى حوش واسع، ووضعوا ألواحاً على الأرض ثم مدّدوه عليها. غسلوه ثم كفّنوه. حملوه بعد ذلك إلى المقبرة. صلّوا عليه ثم دفنوه. 

لم تكن والدتي على ما يرام. إذ إنها أخذت تنوح وتُخمِّش خدّيها حتى سال الدم منهما، بعد دفن اعْمُر.

كان أهلنا ونساء الدُّوَّار يحاولون تهدئتها ويواسونها في ذلك اليوم الرهيب ولم تهدأ إلا بعد لأي. بدءاً من اليوم الموالي، شرعت أمي تهيم على وجهها في الأحراج والوديان والجبال وهي تصرخ من أعماق جوارحها: "اعْمر أممِّي"*.

جُنَّت أمّي بسبب فقدها أخي اعْمُر فأخذها الأهل إلى شيخ زاوية كي تعيش في بيته مع أهله ويعالجها. وعالجها الشيخ الصالح بقراءة القرآن والأعشاب فترة امتدت شهوراً. تحسّنت حالها بعد ذلك وعادت إلينا**.


* أَمَمّي: تعني باللهجة الشاوية في الجزائر "يا ابني"
** القصّة أعلاه مستوحاة من أحداث حقيقية عاشتها سيّدةٌ جزائرية

*** كاتبة من الجزائر

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون