إلزا دو لافارني.. بحث في الرواية البوليسية وبأداوتها

29 ديسمبر 2020
رسمة مرافقة لحلقة من رواية بوليسية في 1899
+ الخط -

كثيراً ما تبدو أجناس الكتابة، من رواية وشعر ومسرح ومقالة وغيرها، وحتى الأجناس الصغيرة المتفرّعة عنها، وكأنها عناصر طبيعية تشكّل العالم منذ بدايته، في حين أنها لا تعدو أن تكون مخترعات بشرية ظهرت تلبية لحاجة ما. لذلك فإننا حين ننظر إلى الكتابات حول الأدب سنجد أنها تهتمّ بعناصر كثيرة، مثل الأسلوب وبناء الشخصيات والحبكة وكيفية تلقيها، لكن قلّما يجري الالتفات إلى محاولة فهم كيف تنشأ الأجناس الأدبية، أي كيف تتحوّل فجأة إلى جزء من العالم بعدما كانت مجرّد فكرة تتقاسمها بعض العقول.

في كتابها "ولادة الرواية البوليسية الفرنسية" (منشورات "كلاسيك غارنييه"، 2020)، تشتغل الباحثة الفرنسية إلزا دو لافارني ضمن مغامرة الحفر في تاريخ جنس فرعي من أجناس الرواية، يبدو لنا اليوم - نحن أبناء القرن الحادي والعشرين - وكأنه معطى عاديّ من معطيات الحياة الأدبية، وينبع هذا الشعور ببساطة من كون هذا الجنس الأدبي قد أصبح ظاهرة تجارية كبرى في القرن السابق، وأن ملايين الروايات تنتمي إليه. لكن ماذا لو ذهبنا في التاريخ أبعد، كما فعلت الباحثة الفرنسية، أي إلى القرن التاسع عشر، كيف سنجد الرواية البوليسية؟

تجيبنا دو لافارني بأنها رواية في حالة جنينية، وأن احتمالات تحوّلها إلى ظاهرة اجتماعية كانت تضاهي احتمالات موتها في المهد، إذن فإن وجود مساحة من الأدب نسميها اليوم بالرواية البوليسية عائد إلى توفّر شروط  كثيرة، مثل الشروط التي تحتاجها نبتة كي تنمو، لولاها لكان من المستحيل أن تكون هناك رواية بوليسية بالمعنى الذي يفهمه القارئ المعاصر، بل من الصعب حتى أن تتبلور في اسم جامع مثل "الأدب البوليسي" بتنا نعرف ما هو ضمنه من الأعمال وما لا يمكن أن يندرج فيه.

تبلورت الرواية البوليسية ضمن تحسّس طويل لرغبات الجمهور

تمتدّ الفترة التي تدرسها دو لافارني بين منتصف القرن التاسع عشر وعشية الحرب العالمية الأولى. في نقطة الانطلاق، نحن لسنا في زمن لم تتبلور فيه الرواية البوليسية بل إن الرواية بشكل عام كانت تبحث عن هويّتها فما بالنا بأجناسها الفرعية. أما نقطة نهاية البحث فهي فترةٌ تحوّلت فيها الرواية البوليسية إلى صناعة مكرّسة في معظم العواصم الغربية. فماذا حدث بين النقطتين؟

تركّز الباحثة على بلدها فرنسا، وضمنه تعتبر أن تبلور الرواية البوليسية أتى من خلال تحسّس طويل لرغبات الجمهور، فقد كانت الصحف تقدّم أطباقاً متنوّعة من الكتابة الأدبية؛ روايات اجتماعية متسلسلة، أدب المغامرة، أدب رعب، مونولوغات (...) وكانت الحكاية القائمة على التحقيق البوليسي من بين هذه الأطباق، وهو شكل من الكتابة استفاد من مناطق أُخرى في الجريدة، أي من صفحات الأحداث اليومية بما تزخر به من أخبار الجرائم والمحاكمات والملاحقات، ومحولات الصحافيين إضفاء نَفَس إبداعي لما يكتبونه ضمنها. 

لكن هذه المساحة في الجرائد لم تكن تعني أكثر من كون جنس أدبي هو الرواية البوليسية (أو القصة البوليسية في مرحلة أولى) بات ممكناً. ولفهم كيف خرج الأدب البوليسي من الجريدة إلى منظومة النشر، تعتمد دو لافارني على منهجية مختلفة، حيث تذهب إلى عوالم كاتب بعينه يُعتبر أبَ الرواية البوليسية الفرنسية؛ إيميل غابوريو (1836 - 1873)، وهنا تفترض المؤلفة أن الأجناس هي في النهاية مشاريع شخصية في البداية قبل أن تتحوّل إلى تيارات ومدارس. وبالتالي يكفي تتبع أثر غابوريو حتى يوصلنا إلى كثير من الشواهد التي تضيء الإشكالية المطروحة.

هنا تدخل دو لافارني في متاهة النص، حيث تقرأ أعمال غابوريو لتستخرج منها مجموعة من الثوابت يمكن من خلالها البدء في تشكيل هوية لجنس أدبي جديد. تقف هنا مثلاً على وجود مشاهد متكرّرة مثل اكتشاف الجثة، أو فشل التحقيق الأوّلي، أو وجود تسابق بين عدة شخصيات سواء لهدف بعينه (محقّقان بخطّتين مختلفتين لكشف الحقيقة) أو لهدفين متناقضين (محقّق يباري قاتلاً). 

ولادة الرواية البوليسية

بعد هذه الغطسة في نصوص غابوريو، تعود المؤلفة إلى تفسير عوامل نشأة الرواية البوليسية، فتذكر أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر حفِل بـ"جرائم مشهورة" وكان ذلك عاملاً ساهم في دعوة القرّاء للإقبال على قراءة كواليس التحقيقات حول هذه الجرائم، كما شهدت هذه الفترة اجتهاداً خاصاً من الجماعة العلمية في فهم الجريمة ودوافعها النفسية كما لم تعرف العصور السابقة، ثم إن تضخّم المدن أمدّ الفن الروائي بفضاءات متشعّبة مثّلت مساحة ملائمة كي يتمدّد في التخييل والتعقيد. 

هكذا جمعت دو لافارني على طول كتابها مجموعة العوامل التي تبلوَر بفضلها أدبٌ نسمّيه اليوم بكثير من الطمأنينة "الروايةَ البوليسية". ألا يشبه هذا النوع من البحث روح الرواية البوليسية حين يتصدّى المحقّق لجمع القرائن في سبيل بناء تصوّر يتيح له فهم ما حدث؟ 

المساهمون