أصوات الصمت (8): مثلما يفكّر متصوّف بغائبين مضَوا

أصوات الصمت (8): مثلما يفكّر متصوّف بغائبين مضَوا

25 مارس 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في  سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


15

حتى هذه الأشجار العارية في الفراغ تلقي ظلّاً، لا بيت لها الآن، لا باحة تحيط بها وتحميها من رياح الصحراء الجافة، لا صوت أطفال يتسلّقون جذوعها ويلتقطون ثمارها الصغيرة الصفراء اللّامعة، لا ماء يترقرق ويسيل بين الأعشاب حولها، ولا آلهة تتقدّم وتباركها، ومع ذلك ها هي تواصل إلقاء الظلال، وتفكّر مثلما فكّر المتصوّف بالغائبين الذين مضَوا والقادمين الذين سيمضون أيضاً.

وما زلتُ أسمعُه يواصل الحديث عن ذلك اليوم المشهود:
  
"أُؤكّد لكُم أن لا شيء يجمعكم بنبات الظلِّ هذا الذي يتعيّش في مكاتب المنظّمة، هُم نباتُ ظلٍّ لا يستطيع أن يخرج مثلما تخرجون إلى العواصف والكهوف وطُرقات آخر الليل، لا يستطيع إلّا أن يعيش في حماية الأقفاص الزجاجية، هل أحدّثكم عن أقفاص الدجاج؟ هذا المُفتي وأمثاله دجاجٌ اعتادوا التقاطَ العلف والقفز من زاوية إلى أُخرى، وارتسم العالم في أذهانهم بحجم معجمٍ دجاجيٍّ لا وجود للنسور فيه، ولا لِلفظَة الطيران، وحين تحدّثهم عن النسور يحسبونك مجنوناً، وعن الطيران يحسبونك من كوكب آخر. دعُوا لهم مسرحياتهم، وواصلوا الطيران في كلّ فضاء، أنتم نسور ولستم دجاجاً لالتقاط العَلَف".  

وأسمع صوت ميرسول يقول مُشدّداً على حروف كلماته: 

"هذا عالم لا يسمح لك بالظهور على شاشة تلفاز ما لم تقتحم المحطّة بدبابة، ولا يسمح لك باعتلاء خشبة مسرح إلّا بجيش لا بفرقة مسرحية، أعتقد أنك تحتاج إلى كلّ هذا حتى تحمي أحلامك أيضاً".

هذا عالم لا يسمح لك بالظهور على شاشة تلفاز ما لم تقتحم المحطّة بدبابة

ويلتفت إلى أبو عوّاد: 

"هل لكُتبك المهرّبة جدوى؟ ستحتاج إلى آلاف المكتبات وإلى آلاف قوافل التهريب لكي توقظ -ربما- إنساناً واحداً في بحرينك العزيزة... إنساناً واحداً فقط من جيل إلى آخر...". 

وفكّرتُ كما تفكّر هذه الأشجار الآن، وهذا البحر الخالي من السفن، بهذا المسرح الذي قام يوماً في الهزيع الأخير من الليل، في غرفة من غرف البيت المُطلّ على البحر، وعلى البيوت الطينية القديمة، وشهد شفافية المتصوّف ورغبته بالطيران ويَأْس ميرسول ورغبته العنيفة في اعتلاء ظهر دبابة، ثم لهجة الطشّ الباكية، وهو يندب دوره الذي لن يرى النور إلّا إذا وقف على خشبة مسرح وألقى خطاباً بذيئاً، لا خطاب عالَم لا مكان فيه للنوم.

لم يتحدّث الميت ولم يعلّق لأنه لم يفهم، كما أظنّ أن مغامرته الملكية لن يعرف بها أحدٌ، لا أهل جنين ولا المارّة المهرولين في الساحة الهاشمية، تحت أنظار الملك المُبتسم في كلّ زاوية وعند أيّ ناصية نظرت إليها.

الوحيدُ الذي كأنّما تحدّث من خارج المسرح كان أبو عواد، فأعلن عن رغبته بالعمل قريباً على سفينة صيد أسماك سترحل إلى شواطئ نيوزيلندا، معبِّراً عن ثقته كما كان دائماً بأن الشعوب تحتاج إلى مزيد من الكتب لا الدبابات، ولا حتى الطيران وراء عالم خيالي والإصغاء إلى أصوات الصمت.
 
فهم ميرسول والمتصوّف مرمى أبو عواد، فاتّجه الأول إليه وصمتَ طويلاً قبل أن يقول بلهجة صارمة:
 
"اسمع... حتى لو ملأتَ العالم كتباً، سيحتاج القرّاء إلى دبابتي، المكتباتُ محتشدة بالمجلّدات فلماذا لم يتغيّر العالم في رأيك؟". 

ومن دون أن ينتظر جواباً ردّ على تساؤله بثقة: 

"لأن أمثالك يذهبون في زمن الثورات لصيد السمك، بينما يتركون للبلهاء خوض معاركها ولقادتها النزول ضيوفاً على القصور الملكية".  

هنا تدخّل المتصوّف بلهجة تشي بتوجّسه من شجار قادم بين صاحب كهف الكاهنة وراكب السفينة: 

"ومن منّا تحدّث عن الثورات؟ ليذهبَ من يذهب كلٌّ في طريقه، ففي نهاية المطاف ربما أحدثَ رفيف جناح فراشة في هضبة التبت عاصفة على شاطئ المتوسط، لا تستهينوا بأي حركة أو كلمة أو فكرة، كونوا أينما شئتم، ولكن ثقوا أنّ كل شيء مرتبط بكلّ شيء حتى وإن كنتم لا تشعرون".
 
وهزّ أبو عوّاد رأسه استخفافاً بنِزالٍ لا يراه مُجدياً ما دام قرّر المُضيّ وراء سفينته؛ الأفضل أن تحمل قيثارتك وتغنّي ما دمت راحلاً غداً، هكذا قالت فتاة جميلة في فيلم "جوني غيتار" لصديقها، حين تحدّاه أحدهم في بار قرية نائية.  

كلّما اتّسعت المسرحية لمسَت حكاياتها شواطئ أبعد وعادت بحمُولات أعجب

نهض عن سريره، وسار إلى النافذة، وحدّق للحظات بشريط البحر القاتم فوق سطوح البيوت، وعاد إلينا متبرّماً: 

"أخشى أننا تخيّلنا مسرحية بأبجدية لا وجود لها، ألا ترون أن هذا الفقمة لم يفقه حرفاً منها؟ وكذلك سيكون مصيرُها مع بقية قطيع الفقمات، مع أنني أعرف... الفقمة حيوان أنيس ومسكين وبريء". 

وبعد لحظة تأمّل قصيرة وجّه كلامه إلى المتصوِّف ونظرته القلِقة: 

"فراشتك لا تختلف عن فكرتي عن القراءة، ولكنْ إلى أن تبدأ الفراشاتُ بالرفرفة علينا أن نفعل شيئاً مفيداً، أن نرقص معاً على الأقلّ بدل هذه الرقصة الفوضوية التي يقودها ميرسول والطش ويراقبُها نائم وميت، ويصفّق لها نمّول". 


16

على طرف المرسى القديم، وفي مواجهة أشعة الشمس الغاربة، يجلس بضعة عجائز وصبيٌّ متربّعين يراقبون سُفناً لم تبقَ منها سوى هياكلِها وظلالِها في سكون مياه النقعة، أو ما تبقّى منها محتجَزاً بسلاسل صخرية، وُضعت لتكسرَ تموّجات مياه البحر، أو تحميها من عواصف مُفترضة لم تعُد تهبُّ منذ سنين طويلة. 

هنا يأتي أحياناً بُناةُ سفُن قديمون وبحّارة وغوّاصون، كأنّما يخرجون من أغنية من أغاني البحر القديمة تُرافقها الطبول والنايات وهبّات أمواج البحر؛ فيفترشون الأرض كما يفعل هؤلاء، أو يقفون منتصبين وعيونهم معلّقة بأُفق لا وجود له إلا في مخيّلتهم، فعلى مرمى حجرٍ أو عصا أو سهم حتى لا تمتدّ مياه البحر الداكنة الخُضرة بعيداً، بل تتوقّف عند أُفق يرسمه خطٌّ طويلٌ من تلال رملية وصخرية يبدو شاحباً، ولكنّه موجود على أية حال، وليس وراءه سوى أراضٍ أُخرى. 

لا بحر في هذا الكون المتمدِّد يساراً حتى مغيبِ الشمس، ومع ذلك يمنح هذا القليل من الماء، كما يبدو إحساساً للبحّار القديم بأنه ما زال في حضرة البحر البعيد، ومغاصات اللؤلؤ، والموانئ المُحتشدة بالسُّفن والأعراق والنساء وثمار المانغو والأقمشة الملوّنة وخشبِ الساج، وظهورِ المراكب العائدة بصناديقِها من السواحل الأفريقية أو سواحل الهند، أي بكلِّ الأحلام التي لم تُستنفد بعد حتى مع تقدّم العُمر وخلوِّ الشواطئ، وخواء البِحار التي لم تعُد تمخرها سوى حاملات الطائرات، وسفن شركات صيد الأسماك العملاقة. 

كم وددتُ أن أتّخذ لي مكاناً بين هؤلاء المتردِّدين على طَرف هذا المرسى، فلي أحلامي التي لم تستنفد بعد، بل وأحلام أصدقائي الذين ذهبوا وتركوا لي أيضاً القليل من المياه التي تذكّر بالبِحار الواسعة، والطُّرق المتشعّبة في كلّ اتجاه، فأكون بذلك كمن يضيف فصلاً إلى المسرحية التي حَلُمنا بها، يدخلها سكّان هذا الشاطئ، وكلُّ شاطئ خالٍ إلّا من مغيب الشمس وبضعة أشجار فقدت بيوتها. 

حين حدّثتهم عن إضافة دَور لهؤلاء البحّارة القدماء إلى مسرحيتنا، لم يعترض أحدٌ من سكان الفيلّا، بل تحمّس النمولُ، وطلب أن نأتي إلى مسرحنا بأحد هؤلاء الذين كنّا نصادفُهم ساهِمِين أمام المرسى ليقصَّ على الجمهور عجائبَ رحلاته بين موانئ المُحيط الهندي، بينما نسمع من ورائه نشيج الأمواج يشتدُّ ويخبو، مؤكّداً أن المسرحية كلّما اتّسعت لمسَت حكاياتها شواطئ أبعد وعادت إلينا بحمُولات أعجب.

ربما أحدث رفيف جناح فراشة في هضبة التبت عاصفة على شاطئ المتوسط

 وفلسَف ميرسول الفكرة: 

"بهذا سنصنع مسرحية كونية بالفعل تحتضن الماضي والحاضر، وترتفع ستارتُها عن جماعاتٍ ولغاتٍ وأمكنة لم تخطر ببال فنانٍ قبلنا، وقد يأتي بعدنا من يُضيف إليها تفصيلاً من هنا أو هناك".  

- "كانت مسرحية مفتوحة...". 

هذا ما أفكّر به الآن، تشبه الحياة تماماً، يحيا فيها الناس ولا يموتون -إنْ ماتوا- إلّا ليعودوا مرّة أُخرى. أعتقد أن الحياة لا يمكن استنفادُها إذا رآها طائرٌ حكيم في سنديانة، لأنّه كلّما رأى أكثر تكلّم أقلّ، وكلّما تكلّم أقلّ سمع أكثر. لم تكُن هذه بالتأكيد حِكمة الغربان في مكتبِ منظّمة التحرير المُحوِّمين حول هدايا شجرة عيد الميلاد، وبخاصة الفقمة الذي استنفرّ كلَّ قواه بعد حديث المتصوّف معه عن الظلال التي يجهلها، وتمرُّد الطش على أوامره وتوجيهاته، فبدأَ يُشيع خبر المجموعة المُخرِّبة، أي سكان الفيلّا، التي تُعدُّ مسرحيةً تُسيء إلى الثورة والشعب، وتحرّض على قادتها.

واستخدم في ذلك ذكاءَه الوحيد الذي يملكه حين كشف عن أن المقصود باسم أبو الخيزران في المسرحية هو أبو عمار، وأن رحلة الميّت الذي يظهر وبين أسنانه فخذُ الدجاجة السمينة، وخلفه الملك القصير المُبتسِم صورة كاريكاتورية من رَسْم ناجي العلي لمسيرة القائد الرمز في أيلول الأسود، والملك يتأبّط ذراعه. 

كان ذكيّاً عند هذا الحدّ بالطبع، أما تفسيرُه لحديث الكاهنة وأقوال مجنونٍ آخرِ الليل في بغداد وتوزيع الكتب سرّاً، وإذاعة أصوات صمت قُرانا المهدّمة، فلم يلمسْ سقف أيّ واحدة منها، ولا تلمس حتى جدرانها، ودار في مدار اتّهامنا أنّنا من أتباع ما سمّاه مسرح العبث الذي يظهر فيه كما يقول ممثّلون بلا رؤوس، وممثّلات بلا أقدام، ويدور الحديث فيه بالهيروغليفية، وينتهي دائماً بشتم المناضلين والحكومات والمفكّرين، والشعراء الكبار الذين يثيرون الغيرة بعد أن أصبحت جائزة نوبل قاب قوسين أو أدنى منهم. 

ونقل عنه المتصوّف أنه تساءل: 

"لماذا لا تكتبون مسرحيات عن القائد الرمز وشعرائنا بدل هذا العبث؟ اكتبوا، وسنُترجم ما تكتبون إلى كلّ اللّغات".

أمام المرسى أكثر من لغة وأكثر من ذاكرة، وكذلك كان الأمر ونحن نطلُّ من نافذة الغرفة الخشبية المتآكلة على سطوح البيوت الطينية، أو نستلقي على الأسرّة المتموّجة كما تتموّج السُّفن والزوارق، أو نمازح المتصوّف الذي يتحدّث دائماً عن أراضٍ لم تَطأها قدمُ إنسان بما في ذلك قدمه هو، فيقول: "بالطبع لم تطأها حتى أقدامي، لأنها لم تظهر على أيّ خريطة موجودة بعد".

المساهمون