أصوات الصمت (4): الدور الحقيقي الذي مثّلته أخيراً

25 فبراير 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


لم يحتج الميتُ إلّا إلى القليل لينهضَ عن سريره، ربما لأول مرّة منذ أن عرفته. فقبل انطلاقة الطشّ، وقبل أن يتلو المتصوف عليهم أخبار مسرحية الخلق، أسرّ له جمال بأن صديقه ميرسول هو ذاته الكهربائي الذي كان يعتلي أعمدة الكهرباء في جنين، وأن المصوّر هو ذاته راعي الغنم الذي كنّا نسمّيه أبو القشب:

- "هل تذكر تلك الأيام؟". 

اتسعتْ عينا الميت دهشةً، ونهض عن سريره واحتضن ميرسول وأبو القشب واحداً بعد الآخر منفعلاً كأنه يراهما لأول مرّة، وعاد إلى سريره وعيناه لا تُفارقان هذين اللذين تكشَّفا له تحت ضوء جديد.

واصلَ جمال لعبته، وقدّم لنا وجهاً آخر من وجوه ميِّته بلهجة استعراضية:

- "هذا الذي تَرون سار على قدميه ذات يوم من جنين إلى عمّان ليطلب من الملك تزويجه".  

وانتفخ الميت مزهوّاً:

- "ولماذا لا أطلب منه؟ قلتُ للحرّاس أريد أن أرى الملك، أنا رجل فقير وأريد الزواج". 

قاطعه ميرسول متصنّعاً الجَدّية:

- "وهل زوّجك الملك؟". 

ولكن جمال هو من أجاب:

- "حسبوه مجنوناً فأعادوه إلى جنين، ومع ذلك يصرّ حتى الآن على أن الملك استقبله، لا أدري كيف وأين، وفتح له ذراعيه كما يفتحهما لصديق قديم". 

لم تكن مسرحية بل شظية ما زالت تتطاير في كلّ اتجاه

وأكّد الميت بحماس:

- "نعم؛ بل وعرض عليّ الزواج من إحدى بناته".
 
وهنا ضجَّ الجميع ضاحكين بلا تحفُّظ، ولاحظ أبو القشب:

- "تتحدّثون عن مسرحية، ها هي مسرحية جاءت تركض إليكم، بملك وصديقه الأبله وربما بالبطانة كلها".
 
لم تكن مسرحية في الحقيقة بل شظية مثل كلّ الشظايا التي لم تجتمع آنذاك، وما زالت حتى الآن تتطاير في كلّ اتجاه. 

هم في غرفتهم يتحدّثون، وأنا أسير في الشارع وأقترب من ساحة الصفاة، ولكنهم هناك أيضاً يتناثرون تحت مياه البحر وفوق التلال، وفي المدافن البيروتية، وفي عُمق الغابات الأفريقية، ربما ليضعَ كلٌّ لمسته بأسلوب حياته قائلاً جملته الأخيرة: "هذا هو الدور الحقيقي الذي مثّلته أخيراً".
 
إذن هذه هي اللحظة الملائمة التي اختارها الميت ليؤكّد حضوره، وبهذه اليقظة على الزواج الملكي اختار أن يكون عريساً، لا يعرف أحدٌ إنْ كان وهمياً أم حقيقياً، لابنة الملك، وبدأ بأخذ سكان الفيلّا معه إلى ردهات القصر وغرفه السرية: "ربما ليقود ثورة من دون أن يدري".

هكذا فكّر أبو عواد بينه وبين نفسه.

- "تحسبونني مجنوناً أو أبلهاً، ولكنّ ما قاله أخي جمال صحيح، وإليكم البرهان".

الذي تَرون سار على قدميه ذات يوم من جنين إلى عمّان

ومدّ يده إلى حقيبته الجلدية المنتفخة تحت السرير، وسحب خرقة كانت خضراء، كما يبدو، في العهود الغابرة، أما الآن فلونُها أقرب إلى لون خرقة رمادية متآكلة: 

- "هذه الشريطة هي ذاتها التي أدخلتني تحت أعين الحرّاس، وقبل أن يمسكوا بي ربطتُها بسور القصر الحديدي المُذهَّب، فتراجعوا، واستسلموا، لا يستطيع حارس مخالفة الأوامر: كلُّ من دخل وربط شريطة خضراء بسور القصر لا يمسّه أحدٌ إلى أن يحضر الملك. قلتُ لهم اذهبوا واطلبوا الملك أريد أن أتحدّث معه، فانصاعوا، وجاء الملك مهرولاً كأنه هبّ لتوِّه من نومه، معه حق، فمنذ سنوات طويلة لم يشاهد أحداً يربط شريطة ويطلب لقاءه". 

سكت الميتُ، وتفرّس بالوجوه المأخوذة حوله، فتشجّع وأيقن أنه يستطيع الآن أخذهم إلى حيث يشاء من دون أن يدرك بالطبع إنهم كانوا يمثّلون دور المأخوذين بحكايته:
 
- "وقال الملك بعد أن أمسك بالشريطة وهو يستجمع أنفاسه، قل ماذا تريد. اطلب المستطاع. أنا لا أستطيع رفض طلب من يعلّقها، فهدّأتُ من روعه، طمأنته، قلتُ أنا رجل فقير وأريد الزواج، جئتُ من جنين سيراً على أقدامي بين التلال، أنا مواطن فقير ومن حقي أن أطلب مساعدة ملكي. فقهقه الملك حتى سمعه المتزاحمون في الساحة الهاشمية، فتوقّفوا، وتبادل الحرّاس النظرات، وضحكتُ أنا، فنهرني الحرّاس، فسكتُّ وانتظرت. وتحوّلتْ قهقهة الملك إلى ضحكات متقطّعة ثم ارتسمت على شكل ابتسامة، ومدّ ذراعه وطوق كتفي ثم سحبني إلى جانبه وسار بي صاعداً إلى بوابة القصر، ودخلنا وهو يقول بلطف، طلبك مستجاب، ولكنْ علينا أن نفتّش لكَ عن عروس أولاً". 

وعاد أبو عواد يحدّث نفسه:

- "وهكذا فشلت الثورة وأطلّ الميتُ من شرفة القصر، وهو ينهش بأسنانه فخذَ دجاجة سمينة، ومن ورائه الملك القصير القامة واليدين، يبتسم ابتسامة عريضة تغطّي نصف وجهه". 

وعلّق أبو القشب:

- "وهكذا أصبحتَ هاشمياً إذن. وضمّكَ الملكُ إلى حاشيته، ولكن ماذا كان رأي ابنة الملك؟".  

بوغت الميتُ، وتطلّع في من حوله متسائلاً:

- "ماذا؟ ابنة الملك؟".  

- "نعم؛ ألم تقل إنه عرض عليك الزواج بابنته؟".

- "ذلك كان في الماضي. نعم، لا أتذكر. ثم لماذا تضحكون؟ كلّ شيء حدث كما قلت، وهذه هي الشريطة الخضراء".

- "نعرف. إنما ماذا حدث بعد ذلك؟".

- "لا أدري". 

وتدخل أحمد: 

- "دعه يا أخي. الأموات لا يكذبون".  

وقفز أبو عواد إلى فكرة التمعت في ذهنه ومعها قفز إلى جادة أُخرى:

- "أسرابُ هذا النمل الزاحف تحت سريرك تعطيني فكرة؛ أعتقد أن الملك رأى فيك نملة باحثة عن حبة قمح، فأعطاها حبة وخرجت، وجاءت نملة أُخرى وأخذت حبة قمح وخرجت، وهكذا تستمرّ هذه الحكاية التي لا تنتهي". 

رفع أحمد يده محتجّاً:

- "لا. لا تقل نملة. بل قل نمّول، النمّول هو الذي سيضع حدّاً لهذه الحكاية". 

- "وما هو هذا النمّول؟". 

- "هو ذكر النملة، كلّنا هنا عازبون ولذا لا يدخل غرفنا سوى النمّول". 

كانت هذه هي اللحظة التي تعلّق فيها لقب النمّول بأحمد من دون نقاش، ولم يعد يتركه، إلّا أنها أيضاً اللحظة التي لم يعد فيها الميتُ يعرف إلى أي سرب ينتمي، فسأل الوجوه المحيطة به:

- "ترى هل كنتُ نملة حين دخلتُ قصر الملك أم نمّولا؟".

ولم يتقدّم أحد بجواب.

المساهمون