أبوابٌ فتحتْها لنا مهسا أميني

أبوابٌ فتحتْها لنا مهسا أميني

08 مارس 2023
وقفة في بيروت، بداية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تضامناً مع النساء الإيرانيات (Getty)
+ الخط -

نون النسوة تفتتح عصراً جديداً برؤيةٍ جديدة ومن أجل عالم جديد. وهي تضع النقاط على الحروف جميعها، ومن خلفها يقف الشباب الذكور والرجال والكهول يناصرون وجودها كي تكون مبتدأ الكلام وخبره. فلأوّل مرّة في تاريخ الحركات النسوية المناهضة لعبودية النساء، تندلع ثورة غير مسبوقة ضدّ الحجاب القسري، كمقدّمة جذرية لكسر قيود الثقافة الذكورية، ليس على جسد المرأة فحسب، بل على كل المجتمع. ذلك أن استعباد النساء هو بوّابة استعباد المجتمع كلّه، وليس النساء فقط، لِما تمثله الثقافة الذكورية من رمز لقهر الإنسان، ولطالما كانت كذلك. وهو ما يذكّرنا بمقولة نسوية تعتبر "أن تحرير النساء شرط لتحرير المجتمع كلّه".

إن المدخل الأساس لتفكيك هذه المنظومة الثقافية يبدأ من تحرير الجسد. لأنّ جسد المرأة مكبَّل عبر منظومة كاملة شاملة تتحكّم فيه، بدءاً من امتلاكه وفرض القيود المباشرة عليه، أو عبر التحكُّم بحركته ووظائفه وأدواره الطبيعية وتأطيرها بهدف استغلاله وتسخيره أيّاً كان شكل النظام، إقطاعياً أو رأسمالياً أو دينياً، وإنْ تفاوتت النسَب ولبست ألف ثوبٍ وثوب. منه ما هو مُعلَن وسافِر، ومنه ما هو مقنَّع ومزيَّن ومراوِغ.

الاحتجاجات التي اندلعت في عموم إيران منذ أيلول/ سبتمبر الماضي، إثر مقتل مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق لمخالفتها قواعد ارتداء الحجاب، ما تزال مستمرّة، وقد توسّعتْ لتشمل الحكم الديني ورموزه، بعد أن ضاق الإيرانيون والإيرانيات ذرعاً به. لم يكن خلع الحجاب أو حرقه سوى شرارة للاحتجاج على كلّ المظالم التي تُمارسها المنظومة الفاشية التي تحكم باسم الدين من قهر اجتماعي وثقافي وعرقي ومعيشي وطبقي وسياسي، حيث بدّلتْ قسراً أنماط الحياة التي اعتاد أن يعيشها المجتمع الإيراني قبل ما سُمّي بالثورة الإسلامية.

لكنّ الأهم أن هذه الاحتجاجات رفعت شعار "نساء، حياة، حرّية" بوصفه رمزاً لرفض النظام الثيوقراطي الذي قمع وما يزال يفعل هذه الاحتجاجات، بكلّ وحشية وعناد. وازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي منذ مقتل مهسا أميني بصور وفيديوهات لنساء وفتيات يخلعن الحجاب في الساحات العامّة ويحرقنه أو يمزّقنه أمام أعين الشرطة والعالم. وصل الأمر إلى حلْق بعضهن شعرهن بالكامل، تجسيداً للتحدّي وما يمثّله هذا الفعل من رمزية تؤكّد حقّ المرأة بالتحكم في جسدها وتحريره من سيطرة الطغمة الدينية الفاشية.

لا بد من دراسة الروابط بين أزمات الكوكب والذكورية

كان صدى هذه الاحتجاجات قوياً وعابراً للقارّات، وقُوبل بتعاطف شديد من الرأي العام العالمي، وشكّل لحظة زمنية فارقة في تاريخ النضالات النسوية. لذلك يحمل يوم المرأة العالمي هذا العام طعماً جديداً مختلفاً وراديكالياً كصدى نضالات المرأة الإيرانية وثورتها على الحجاب القسري. سيؤدّي هذا إلى تطوّر النضال النسوي بخلفيته الغربية إلى نضال تتّسع جغرافيته ومجالاته وتتّجه شرقاً وتتجرّأ لأوّل مرة على المساس بالتابوهات الدينية التي يحميها نظام ولاية الفقيه، بل ربما التابوهات الدينية المريضة التي مثّلتها حركات إسلام سياسي بعقلية مريضة، مثل "طالبان" في أفغانستان و"داعش" و"القاعدة" في البلاد العربية، كنماذج صارخة شوّهت حتى ما نعرفه عن الدين الإسلامي. كما لو أن هذه النماذج تمارس تحقير النساء باسم الدين كممارسة مجازية للوأد الذي حرّمه الإسلام.

لاقت الثورة على الحجاب القسري تعاطفاً فورياً شمل كافة النخب الإيرانية الفنية والرياضية والثقافية، والفئات الاجتماعية والمكونات العرقية على اختلافها. دفع المئات منهم حياته ثمناً، فيما الاعتقالات بالآلاف منذ مقتل مهسا أميني. كانت هذه الثورة الشرارة التي قادت حركة الاحتجاج، إذ مشى الرجال في جنازة مهسا أميني خلف النساء في همّهن، وتوسّع الحراك ليشمل الاحتجاج على النظام نفسه بكل جبروته وفساده ورموزه الدينية الأعلى شأناً. 

تَرافق ذلك مع حرق صور هؤلاء وإسقاط العمائم عن رؤوس رجال الدين، في رفضٍ أيديولوجي لهذه المنظومة، بما يرتقي لمستوى الثورة الثقافية بكلّ مجالات "الحياة". وهي الكلمة الثانية في الشعار: "نساء، حياة، حرّية"، لإظهار الترابط الوثيق والمتبادل مع الحرّية، لكنّه يضع حرّية النساء في مقدّمة هذا الشعار، لتصبح شرطاً للحياة وأيّة حرّية مبتغاة. بعيداً عن تهويمات هذيانية لرجال دين يسعون جهاراً لتكبيل جسد المرأة وتحجيبه قسراً بغير حقّ، بل يجعلونه في حالات أخرى مشاعاً لزيجات المتعة، بحسب ما يناسب أمزجتهم المريضة المهووسة بالسلطة.

إذ يبقى جسد المرأة الحيّز الجامع لكلّ أشكال استعباد النساء المحمية بالثقافة السائدة التي تتبناها الملايين من النساء عبر العالم، طوعاً وخضوعاً، وليس الرجال فقط، وليس في إيران وحدها. وهو أمر حلّلتْه وفككتْه نسويات طليعيات، كما فعلت سيمون دوبوفوار في كتابها "الجنس الآخر"، وفرجينيا وولف في "غرفة تخصّ المرء وحده". أوجزت دوبوفوار هذا الخضوع الطوعي بعبارتها الشهيرة: "لا يُولد المرء امرأةً، بل يُصبح كذلك". فيما استهجنت وولف، في بحثها عن "المرأة والكتابة" في ثلاثينيات القرن الماضي، حصْرَ كتابات النساء ضمن حيّز الكتابة عن العلاقة الغرامية مع الرجل، في توصيف سلبي يحكم هذه العلاقة بوصفها مشبَعة بثقافة ذكورية حتى في علاقة الحب. وقد تجلّى ذلك في الإنتاج الأدبي للنساء شعراً ونثراً ورواية. كان جسد المرأة، لا عقلها، أو إنجازاتها، محْور ارتكاز هذا الأدب، لكنّ المقام هنا لا يتّسع لسرد أمثلة كافية عن هذا. 

اليوم، هذا الجسد الذي يُفترَض أن تملكه المرأة، يتمرّد ويخوض غماراً جديدة. وهي الغمار الأكثر راديكالية وتمرُّداً في تاريخ الحركة النسوية العالمية. لذلك، فإن الثورة على الحجاب اليوم تختزل، في رمزيتها، معركة الوعي الشامل للبشرية في سعيها للتحرُّر من كافة المظالم وما يختبئ خلفها من ذكورية مفرطة باتت - إن تعمّقنا في النظر - تضع العالم بأسره تحت خطر وجودي يتهدّد بدمار الكوكب ومَن عليه، بسبب أزمات وجودية لا حصر لها، وليس بسبب تهميش وجود المرأة فقط، وإن كانت إشكاليتها الوجودية كامرأة هي تكثيف مضمر لإشكاليات الإنسان الوجودية برمّتها، وهو ما يحتاج لتخصيص دراسات معمقة في الإشكاليات التي تعبث بالكوكب وخلفياتها الذكورية.

ولم يكن عبثاً أن ربطت الحركات النسوية تحرُّر المرأة بتحرير المجتمع من كافّة أشكال الاستغلال بوصفه شرطاً لتقدُّم البشرية جمعاء. كذلك لم يكن عبثاً أن ولّدت الثورة على الحجاب القسري شعارَ "نساء، حياة، حرّية"، لتكشف الترابط بين تحرُّر النساء كمقدمة للحياة الكريمة. لذلك، يُعتبر خروج نساء إيران في ثورة ضدّ الحجاب رمزاً كبيراً يضع الإصبع على موطن الخلل وعلى المكان الذي بدأت منه الحكاية حين زُرعت بذور فتنة كبرى مفتعلة ومستمرّة عبر التاريخ بين النساء والرجال الذين مُنحوا امتيازات ذكورية على سبيل الرشوة، فوقعوا في الفخ الذكوري الذي يخلخل العلاقة الإنسانية الأولى في الحياة: علاقة الحب. 

إذ حين يمنح الحبيب امتيازات تنطوي على استعبادٍ للحبيبة، فهو يتربّى على أن يكون السيد ويقبل بعبودية مَن يحبّها، الأمر الذي ينسحب بدوره على كل علاقة إنسانية ويزعزعها، أي على العلاقة مع الأم والزوجة والأخت والابنة والصديقة وزميلة العمل، في تراتبية سقيمة باتت بصماتها تظهر جلية في كلّ الأزمات الوجودية التي لا نبالغ إنْ قلنا إنها تهدّد الكوكب بالفناء. هذه العقلية/ الفتنة تفعل بنا ذلك. وربما آن الأوان أن نصنع لنا حكاية جديدة من البداية، لتتربّع نون النسوة في مركز الحياة لا على هامشها.

وإن صح قول سيمون دوبوفوار "إن المرء لا يولد امرأة، بل يصبح كذلك"، فإنّ المرء "لا يُولد رجلاً، بل يصبح كذلك" أيضاً.


* كاتبة وإعلامية فلسطينية

المساهمون