"أشجار غير آمنة" لدارين حوماني: كلام يتهيّأ للشعر

10 ابريل 2022
دارين حوماني
+ الخط -

لدى قراءتنا لديوان دارين حوماني السادس، "أشجار غير آمنة"، الصادر عن "دار النهضة" في بيروت (2021)، ندخل في موجةٍ تِلوَ موجة، من صعيدٍ إلى صعيد ومن درجةٍ إلى درجة أعلى أو أدنى. الحياة كلّها هنا، الشاعرة والمدينة والوقت والفكرة والشِّعر، بطبيعة الحال، وما يرتفع مع ذلك أو يهبط، وما يكون في لحظة ما هو عليه وينتقل بين لحظات في الأعلى وفي الأدنى، لحظة الراهن المحيط، ولحظة الحياة الشخصية، ولحظة المدينة، وبالطبع لحظة الشّعر الذي لا يلبث أن يخرج من كلّ لحظات، ويشعّ من داخل الأشياء والأفكار والوقائع والسيرة.

الشّعر الذي يأتي أيضاً في لحظته وفي وقته مرتفعاً بالكلام الذي يحوم تحته، ويتشكّل داخل السرد وداخل الخبَر وداخل الوقت وداخل الأشياء. لا يحتاج الشّعر إلى أكثر من أن يجد مدخلاً. لا يحتاج إلى أكثر من أن يجد إيعازاً، يجد صعيداً، ويجد هكذا سبيلاً إلى أن يتألّف فجأةً فوق الأشياء وفوق السرد وفوق المشهد.
"مؤلّف موسيقي
يقدّم لنا السكينة مع النبيذ
وفجأة يُدير ظهره لنا
فنرى بقع الحزن على ظهره".

الشّعر هكذا لا يتورّع عن أن يصدر عن لحظة المؤلّف الموسيقي وهو يُدير ظهره. هذا المثَل ليس فريداً، إنه متعدّد، والتعدّد هو أيضاً سمة شعر دارين حوماني. إننا هكذا بين العادي والشيء والواقعة وما يصعد من ذلك كلّه. شعرٌ يحدث بدون استئذان وبدون تمهيد. إنه موجودٌ في صُلب الأشياء، موجود على نحو عضويّ فيها، وحين ينطلق منها لا يُفاجئنا، كأننا كنا ننتظره، كأن الكلام يحلم به ويتحرّك له ويتهيّأ ليكونه.
"حلمت ذات مرّة
أني رأيتُ يدي في لوحة 
عمرها ألفا عام".

أشجار غير آمنة

الكلام في ديوان حوماني، وربما هذا هو أسلوبها، لا يتوّرع عن أيّ مستوى. إنه أحياناً تعليقٌ بحت، وهو أحياناً مُحاكمة بحتة، لا تمانع في أن تهجو وتسخر، وما يمكن أن يبدو منطقاً بحتاً أو مستوىً جدليّاً. لكننا مع ذلك ما نزال نتسقّط السرد والمنطق والجدال، على يقين من أن الشّعر يتهيّأ ليخرج، بل هو موجود في ذيل الكلام الذي يأتي من كلّ ناحية. على يقين من أن السرد والجدال لا يمانعان في أن يشعّا بالشّعر، وأن الشّعر يوجد في طيّاتهما، بل هو يتوجّهما ويرفعهما إليه.

يمكن أن نجد في ديوان دارين حوماني ما هو معركة وصراعات جيل من المثقّفين. لا تمانع حوماني من أن تستحضر، في ديوانها الأخير، ما هو خطاب أو سجالات جيل. في هذا الديوان لا تمانع حوماني من أن تتعرّض للمدينة الملعونة، المدينة التي تطرد الشعراء، لكنها أيضاً لا تمانع من أن تمارس نقداً اجتماعياً، بل إنّنا في أحيان نكاد نستشفّ في ديوانها نقداً للشعر وللثقافة، لكن ما هو في النهاية حكاية جيل، يستدقّ في الديوان حتى يبدو، آخر الأمر، حكاية شخصية.

شعرٌ موجود في صلب الأشياء، يحدث بدون استئذان أو تمهيد

قد تكون من ميزات "أشجار غير آمنة" هذه العودة المثابِرة إلى السيرة الشخصية. لا أعني فقط الاحتجاج ضدّ المدينة وضدّ المجتمع وضدّ الآخرين بوجه عام، بل أعني أكثر من ذلك. الاحتجاج هنا هو في غالبه احتجاجٌ شخصي، الأم والمرأة المحاصرة في بيروت ليست في ديوان حوماني أيّ أمّ وأيّ امرأة. إنها دارين نفسها، دارين في حياتها الخاصة. هكذا يسعنا أن نقرأ "أشجار غير آمنة" كاعتراف كبير، بل نحن لدى قراءته نفهم أننا أمام ما يشبه السيرة.

لا يحتاج المرء إلى أن يعرف دارين، كما أعرفها أنا، ليشعر بذلك. مع ذلك فإن عدداً من المناحي في الديوان لا يمكن فهمها إلّا بإحالتها على السيرة والحياة الخاصّة. قد يحيّرنا هذا الجدل مع الدين وهذه العودة المستمرّة إلى الوجود الإلهي، وهذه المعركة التي أطلق عليها كازانتزاكيس اليوناني أنها معركة مع الإله. قد يحيّرنا ذلك إلى حين نفهم أن دارين المحجّبة المتحدّرة من أسرة دينية، تتكلّم هذا عن معركتها الخاصة، وأن هذا ليس وحده من سيرتها، فهذه السيرة التي وجدت شعرها واستولدته، هي إلى حدّ بعيد سيرة دارين، بل يمكننا هكذا أن نقرأ الديوان على أنه سيرة، سيرة بالشّعر، إذا أمكن القول. قراءة الديوان، على هذا النحو، قد تحتاج إلى مطالعة ثانية وقراءة أخرى.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون