حكمة ابن جاخ

24 سبتمبر 2019
+ الخط -
هناك علاقة عكسية بين قوة العقل وخوض اللسان في الأمور، فكلما كان العقلُ أرجح، كان الكلامُ أقل، ومن ذلك قول إيليا أبو ماضي (فما ضاقَ الكلامُ بنا ولكن/ وجدنا الحزن أرخصه الكلامُ). في هذه الأثناء يصبحُ الكلامُ كالدواء قليله ينفع وكثيره يضرّ، ومن ذلك ما حدث لابن جاخ البطليوسي (444 – 521هـ) أحد شعراء الأندلس المجيدين المُقلين.

تذكرُ كتبُ التأريخ أنّ ابن جاخ ورد على المعتضد بن عباد (ثاني ملوك بني عباد في إشبيلية بالأندلس)؛ فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، وسأله الشعراء عن نفسه؛ فقال: إني شاعر! فقالوا: أنشدنا من شعرك! فأنشدهم متعمدًا شعرًا ركيكًا لحاجةٍ في نفسه فقال: (إني قصدت إليك يا عبادي/ قصد القليق بالجري للوادي).

وهذا بيتٌ ركيكٌ لا يحسب في الشعر شيئًا، بل ربما يصحّ أن يضاف إلى الشعير لا إلى الشعر؛ فضحكوا منه وازدروه، لكن بعض عقلائهم قال: "دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم"؛ فلم يبالوا بكلام الرجل وتنادروا على ابن جاخ، أضمروا أن يتلاعبوا به في مجلس ابن عباد.


المعتضد بن عباد والد المعتمد شاعر بالأساس، وصاحب الصولات والجولات مع ابن عمار، لذلك أراد أن يكرم الشعراء؛ فضرب لهم موعدًا لا يخلفه ولا يخلفونه، لا يدخل عليه في ذلك اليوم غير الشعراء، وربما كان يوم الاثنين.

وقال بعض الشعراء لبعض: "هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا ويجترئ على الدخول معنا"؛ فاتفقوا على أن يكون ابن جاخ أول متكلمٍ في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حسمًا وردعًا لابن جاخ وأمثاله عن ارتياد دولة الشعر.

ولما كان اليوم المضروب، وقعد المعتضد في مجلسه ليسمع منهم، رغبوا أن يكون هذا القادم - ابن جاخ - أول متكلم؛ فصعد الكرسي وانتظروا أن يُنشدهم مثل الشعر المضحك المتقدم، لكنه قال: (قطعتَ يا يومَ النوى أكبادي/ وحرمتَ عن عيني لذيذَ رُقادي/ وتركتني أرعى النجومَ مُسهَّدًا/ والنارُ تضرم في صميمِ فؤادي) فأتى عليها حتى سلب الألباب وانتزع منهم الإعجاب.

حتى قال (إن القريضَ لكاسدٌ في أرضنا/ وله هنا سوقٌ بغيرِ كساد)، فطرِب المعتضد وقال له: أسألك الله! ابن جاخ أنت؟! فقال: اللهم نعم! فقال المعتضد: اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء! وأحسن إليه، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحدٍ بعده.

لم يكن ابن جاخٍ بدعًا من أهل العقل والفكر، من لا يغريهم البهرج الخداع عن لب الأمور وحقيقتها، وصدق الباخرزي (إنَّ البُّزاةَ رؤوسهن عواطِلٌ/ والتَّاجُ معقودٌ برأس الهدهد)؛ فالكبار لا تستهويهم القشور ولا الألقاب الخاوية، يبحثون عن إضافةٍ حقيقية يقدمونها لأنفسهم ولمن حولهم، ويكتفون بالفعل دون القول.

وإن كان ابن جاخ قد فاق هؤلاء بذكائه؛ فإنه ربما أفاد من رجل عاش هو الآخر في نهاية القرن الخامس الهجري، وإبان دولة المرابطين، إنه التطيلي الأندلسي (الأعمى)، عاش بين عامي (485 – 525هـ) ولم يبلغ أربعين سنة، لكنه ترك ديوانًا من الشعر والموشحات الخالدة. حدث أن دخل مجلس الشعراء في إشبيلية، وقد تأنّق الشعراء في تحبير مقطوعاتهم وموشحاتهم وتأنقوا فيها أيما تأنق، وقدموا التطيلي مثلما قدم سابقوهم ابن جاخ، وكانت المفاجأة للمرة الثانية!

أنشدهم التطيلي موشحًا مطلعه (ضاحك عن جمان/ سافرٌ عن بدرٍ/ضاق عنه الزَّمان/ وحواه صدري)؛ فشهدوا له بالتفوق عليهم، حتى خرقَ ابن بقي الشاعر موشحته، وقال عنه لسان الدين بن الخطيب "صار توشيحه مثلًا سائرًا في الناس". من ابن جاخ والتطيلي نفيد درسًا ماتعًا، إنه التركيز على الفعل لا على القول، والانتباه إلى أهمية اللباب مقارنةً بالقشور والمظاهر، وقديمًا قالوا "تحسبها حمقاء وهي باخس"، وقالوا "حسبه صيدًا فكان له قيدًا".