أعلام الأدب (5): موباسان

02 سبتمبر 2019
+ الخط -
رتَّب لنا سومرست موم لقاءً مع أستاذه موباسان، لم أتوقع أن يكون اللقاء بهذه السرعة؛ فالرجل معروف بدقته وصرامته، ما لم يطرأ جديد على ساحته الخاصة، لا سيَّما إن كان الجديد يتعلق بفتاة حسناء أو امرأة لعوب؛ فإنه يطوي الزمن وينتهب الأرض ويطلِّق الكتابة، وبعدما يشبع نهمه الجنسي يعود لارتداء زي الكتابة.

وعنه يقول أناتول فرانس: "موباسان دون ريب واحد من أروع كتاب القصة، في بلدٍ كتب فيه كثيرون كثيرًا من القصص، بل والقصص الجيدة، إنه يمتلك ثلاث مزايا كبرى هي الوضوح والوضوح ثم الوضوح".

ومع التزامه بالموعد المضروب، لكنه لم يقوَ على الحديث، كان ممددًا على سريره ينظر إلينا نظرات تتأرجح بين الشك والتوسُّل، وأقبل طبيبه الخاص ليطمئن على صحته. بعد مدة من الفحص المضني، أشعل الطبيب سيجارةً ووضعها في فم موباسان، وقال اتركوه الآن على الأقل ساعتين؛ فإنه أصيب بالزهري Syphilis لعلاقاته الجنسية المتعددة، وقد بدأت رحلته مع المرض سنة 1876، والآن تُلِح عليه أعراض الدوخة وتشوش الرؤية وكوابيس وهلاوس اكتئابية، ربما يتحدث إليكم بعد ساعات.

خرجنا من غرفته ليستريح قليلًا، وكان الطبيب آخرنا خروجًا من الغرفة، وعلى الرغم من أننا جميعًا سمعنا موباسان يرفع عقيرته قائلًا "أحب جسد المرأة حبي للعشب والأنهار والبحار"، وأردف بعدها "أنا مصابٌ في غرائزي في أفكاري، في أحاسيسي وعقلي، وعندي أن القناعات والأفكار والأخلاق تروق البلهاء"، لكن الطبيب نصحنا بالانتظار خارج غرفته حتى يستفيق ويتأهب للحديث.


وكان روغون -وهو أعرف الناس به- إلى جانب الطبيب؛ فلما خرجنا قال روغون: "إنه كان يمعن في الشراب، يحلم بالرياضة والتجديف على القارب يوم الأحد، يأكل بنهم ولا ينام إلا لمامًا، مفتول الذراعين، يُمطِر من حوله بألفاظ يندى لها الجبين".

وفي جلستنا خارج الغرفة، تجاذبنا أطراف الحديث وكان خلاصة ما دار بيننا أن موباسان عاش بين عامي (1850 – 1893)، ومن ألقابه تشيخوف فرنسا، وعميد القصة القصيرة. تربى في كنف غوستاف فلوبير وإميل زولا، قرأ كتابات شارل بودلير مرارًا وتكرارًا، وتشبع بأفكار شوبنهاور، كرَّس حياته لفن القصة، وخلَّف ثروة أدبية متميزة، يعد أستاذ القصة القصيرة، وينصِّبه النقاد غير الفرنسيين القاص الفرنسي الأوحد.

وأضاف بعضهم بفخر واعتزاز، ولربما كان من مريدي أدب موباسان: تأثر به كثيرون من أعلام الأدب، على رأسهم الإنكليزي ويليام سومرست موم. في فرنسا وقبل عام 1970، لم ينل أيَّ قدر من الاهتمام الأدبي، ثم أصبح أيقونة أدبية مرموقة وكاتبًا طبيعيًا موهوبًا، وتحقق له شطر كبير من هدفه إذ أراد أن يصبح كاتبًا شهيرًا ينبذ الفقر، ويجني ثروةً طائلة ينفقها في الملذات.

وقال رجل سبعيني العمر، أزرق العينين، نحيل الجسم مهندم الثياب، تكسو ملامحه ابتسامة خلابة: في يوم 5 أغسطس/آب 1850، شهدت منطقة "فيكامب Fecamp" الساحلية مولد هنري رينيه ألبير غي دو موباسان، شبَّ في قصر من قصور القرن السادس عشر ينم على وضعٍ اجتماعيٍ مرموق، لأبٍ من سلالة النورمانديين ضعيف الشخصية يعمل سمسارًا، وأم -وتدعى لورا ليبواتفان- متسلطة.

واستطرد السبعيني: هيمنت الأم على ولدها وأثرت في حياته، وألزمته الميل للقراءة والكتابة، شجعته واهتمت به من نعومة أظفاره، وأوكلت به صديقها غوستاف فلوبير. لم يقف اهتمامها به عند هذا الحد، بل جمعت له حكايا يستمد منها مواضيع كتاباته، وصحَّحت له الأخطاء اللغوية.

انفصلت لورا عن زوجها وعاشت لابنها، وأدخلته أمه إكليركية إيغيتو ثم ثانوية روان، ونتيجة التصاقه الشديد بها فإن انفعالاتها وتشنجاتها انطبعت في مخيلته، وورث عنها البؤس والتعاسة والطابع الكئيب القلق، وقرر ألا يخوض تجربة الزواج واستغنى عنها بالعلاقات العابرة، أمضى شبابه على شاطئ النورماندي، ولازمته ذكريات تلك الأيام حتى على سرير الموت!

وبلهجة حزينة وملامح معبرة، أضاف السبعيني: عاشت أمه حياةً غلب عليها الاعتلال والمرض، حاولت الانتحار غير مرة، خنقت نفسها بشعرها الطويل ولم تفلح طريقتها. في بداياته، أحبَّ موباسان الحياة وانغمس في ملذاتها من رأسه إلى قدمه، لكنه تأثر بأمه وانفطر قلبه لحالها؛ فأورثه ذلك شعورًا مريرًا تجاه الحياة، وغلبت عليه نزعة الشعور بالشيخوخة.

عزف عن الزواج لأنه -وفق رؤيته- يقضي على الإبداع، وانكب على الكتابة؛ فكتب خلال 12 سنة (1880 – 1892) مجموعة قصصية وست روايات وثلاثة مجلدات من حكايا الرحلات ومئات الأخبار. ربما يرجع نشاطه الأدبي المحموم لتوقعاته المتشائمة؛ فإنه توقع أن يموت بغتةً، وتأثر في ذلك بموت أستاذه فلوبير المفاجئ، وكذلك بحالة أمه النفسية والعصبية، ونتيجة للنشاط المتحامل على البدن قضى سريعًا!

وكان في الحاضرين ناقد كبير، ضخم البطن، أخضر العينين، مدخن شره، حسن السيرة، يكثر ذكر جملة "وأعتقد اعتقادًا جازمًا"، وقال الناقد بلهجة تقريرية وثائقية: خلال عشر سنوات قضاها موظفًا عاديًا، قسَّم حياته بين العمل ومباريات تجديف المراكب وتدريب قاسٍ على يد فلوبير بوساطة أمه. استهل حياته العملية سنة 1873 كاتبًا في وزارة البحرية، كان خاملًا في عمله غير كفء، ما أسخط عليه رؤساءه؛ فترك العمل سنة 1870، واشترك في الحرب السبعينية (1870 – 1871) كجندي صغير، والتحق -بعد الحرب- للعمل في وزارة المعارف بمنصب كبير، وظهرت موهبته الأدبية حينها، لم تزد مدة عمله في المعارف عن سنة ونصف.

وبينما يبلع الناقد ريقه، قلت في نفسي: لعل القارئ يربط بين مشاركة موباسان في الحرب السبعينية، ومشاركة سومرست موم في الحرب العالمية الأولى، وما اكتسباه أدبيًا من هذه التجربة.

إذن موباسان ابن عائلة مفككة بالأساس، عانى خيبة الأمل وخاض الحرب السبعينية وتأثر بالهزيمة، وقرأ لشوبنهاور التشاؤمي الأول، فضلًا عن حالة أمه النفسية والصحية؛ فاجتمعت هذه العوامل في أدبه بشكلٍ ملموس. تشكلت هويته الثقافية ببلوغه سن الثلاثين، وفي العام نفسه نشر روايته كتلة الشحم/ الدهن؛ فاكتسب احترام النقاد وعزز ثقته بنفسه.

كتاباته الأولى

وكان الناقد من هواة الحديث دون انقطاع فقال دون أن يترك لغيره مجالًا للتعليق أو الإضافة: أول قصصه "كتلة الشحم" أو كتلة الدهن ويترجمها بعضهم إلى "كرة الودك"، وهي بالفرنسية "بول دوسويف Boule de Suif"، ظهرت في كتاب باسم "أمسيات مدان" سنة 1880 وفي نفس يوم وفاة أستاذه فلوبير! وفور ظهورها كُتبت له الشهرة، تفوق على الكتَّاب الواقعيين قاطبةً، لدرجة أن النقاد الذين ناصبوا الواقعية عداءً مريرًا، ومنهم برونتيير، أشادوا بأعمال موباسان وأقروا بتفوقه؛ فأصبح علمًا من أعلام القصة الفرنسية بل والعالمية.

اغتنم أحدهم فرصة إمساك الناقد بزجاجة مياه معدنية، وبينما يشرب الناقد قال الآخر بسرعة قبل أن يعود الناقد إلى استلام دفة الحديث: وخلاصتها أن مجموعة هربوا من جحيم الاحتلال سنة 1870، ركبوا عربة من روان إلى الهافر، وفي الطريق تستوقفهم دورية ألمانية ثم تحتجزهم، كانت برفقتهم إحدى المومسات؛ فطلبوا إليها أن تسلِّم نفسها للضابط البروسي، وبعدما يقضي منها وطره يسمح لهم بالمرور والنجاة من الأسر. نظر الناقد للمتحدث بغضب، وربما قال في نفسه "يعني كان لازم أشرب دلوقت!"

لكن المتحدث أدرك أن من يفوته القطار فلن يعود إليه، ولذلك واصل: تمنّعت المرأة أول الأمر، لكنها وبإلحاحٍ لم ينقطع نزلت على رغبتهم، وكان لهم ما أرادوا وانعتقوا جميعًا من ربقة الأسر. استأنفت العربة رحلتها، لكن الناس تنكروا للمومس وتجنبوا الحديث معها، ليس ذلك فحسب، بل إنهم رفضوا أن تشاركهم الطعام أو الشراب، ونعتوها بأحط الصفات وأقذع السباب، تناسوا أنهم من توسلوا إليها قبل ساعات، وأنهم أقنعوها أن تُقدِم على هذه الخطوة لتنقذ حيواتهم.

هنا، استوقف الناقد المتحدثَ وطلب الكلمة ليقول: نجحت القصة نجاحًا غير مسبوق، وهي أول أعماله القصصية، غير أنه سبقها بمسرحية "حكاية الزمن القديم" سنة 1879، ثم بمحاولة شعرية سنة 1880 في ديوان "أشعار"، لكن المسرحية والشعر لم يجدا أي قبولٍ يُذكر، بينما رسمت القصة ملامح موباسان الأدبية.

كتلة الشحم وإن ظهرت سنة 1880 وعرفت بأول أعماله، لكنه دخل عالم الكتابة قبلها بخمس سنوات، واكتسب شهرته من نجاح كتلة الشحم، قال عنها فلوبير "إنها تحفة فنية"؛ فقد قرأها فلوبير وأبدى ملاحظاته عليها غير مرة، ما ساعد موباسان على التعديل والتحسين، لكنها نشرت يوم وفاة فلوبير.

كتب موباسان "كتلة الشحم" متأثرًا بأسلوب فلوبير في "مدام بوفاري"، وهي سيرة ذاتية لامرأة تعيسة في زواجها، ويرجع نجاح قصة موباسان لعمله صحافي أخبار في مجلة Gil Blas وكذلك La Gaulois وأيضًا في "صدى باريس" ثم لوفيغارو، ومنها كوَّن خبرةً صحافيةً مناسبة، وجاء أسلوبه في قصتة تقريريًا متأثرًا بالكتابة الصحافية، ولم يبالِ بالواقع!

بعد "كتلة الشحم"، كتب موباسان 300 قصة ما بين عامي (1880 - 1890)، نشرت في 18 مجلدًا، وفي قصصه الأولى نحا المنحى الفلسفي؛ فاهتم بالمغزى فوق اهتمامه بالقصة، بينما في مؤلفاته التالية (في الأسرة 1881، ابنة المزرعة) أولاها قدرًا كبيرًا من السرد القصصي، وتحمل قصة "في الأسرة" نقدًا لاذعًا صوَّر فيها تكالب صغار الموظفين على المال، يتقاسمون إرث والدتهم العجوز، وهم يتوهمونها قد رحلت الرحيل الأخير، بينما تستيقظ العجوز من سباتها الطويل؛ لتجد نفسها في بيتها المنهوب!

شعر الناقد بالتعب وأن الناس قد سأمت تفرُّده بزمام الكلام؛ فرمى بكرة الحديث إلى ممثل مسرحي شاب، فاتني أن أدوِّن اسمه، لكنه قال: مقارنة بتلميذه سومرست موم؛ فإن نجم موباسان لم يلمع في المسرح، ولم يشعر بامتلاك موهبة حقيقية تؤهله للكتابة المسرحية، كان يتردد في دخول صالات العرض المسرحية؛ لأنه ظل غريبًا عن تقاليد المسرح، بل كان يبدي بُغضًا شديدًا للمسرح! ربما مبعث ذلك أن أعماله المسرحية لم تحقق نجاحًا يذكر، ومن تلك الأعمال "تاريخ الزمن القديم"، "إعادة"، "موزوت"، "خيانة كونتيسة رون"، بينما حققت مسرحيته "الوئام العائلي" نجاحًا مقبولًا، وعُرضت مسرحيته "إعادة" على مسرح النورماندي أربع مرات.

وأضاف الممثل المسرحي: فشل موباسان المسرحي لا يختلف عن فشل تشيخوف، وكما جرى مع ديدرو فإن أفضل مسرحياته هي قصصه ورواياته؛ فعندما يدفع الكاتب بالأحداث إلى أقصى حد، يغدو إنتاجه المسرحي قويًا ومتينًا. إن لم يظفر بنجاحٍ ملموس في دنيا المسرح؛ فقد أفاد منه في ضبط أعماله الروائية، لا سيَّما في الحوار وتفصيلاته. وفي سنة 1897، عبَّر موباسان عن رفضه المسرح بشكل مقتضب، إذ قال "بئس المسرح! لن أكتب بعد الآن"، وفي العام نفسه نشر سومرست موم أول أعماله "ليزا من لامبث".

محيط عمله وبداياته

أما عن محيط عمله وبداياته الأدبية؛ فقد تصدر للحديث عنها بعض أصدقائه المقربين فقال: أفاد موباسان في أعماله من قصص أصدقائه وزملائه، فصوَّر أخلاقهم في شيء من السخرية والاحتقار، ورسم فيها بعض المشاهد الطبيعية. كان شاغله الشاغل إتقان الكتابة، لم يقتصر على المطالعة وحدها، كانت بنيته القوية باعثًا على تهافت متواصل في طلب اللذة الحسية، كثيرًا ما اختلف إلى نوادي المجتمع الراقي، لم يبتعد عن المجتمع العام أو ينعزل عنه، شأن أستاذه فلوبير وإميل زولا.

عاش في بيته وحيدًا مع خادمه فرنسوا، ولخوفه من الوحدة كان يسهر الليل -وكذلك كان العندليب الأسمر- في الملاهي الليلية. ينتمي إلى الطبقة البرجوازية، لكنه آثر صداقة العمال والطلبة وفقراء المجتمع الفرنسي، وسافر إلى دول كثيرة منها الجزائر وإيطاليا وانكلترا، ومن واقع سفرياته استمد محتوى أدب الرحلات مثل "في الشمس"، و"على الماء"، و"حياة المتشرد".

لم يتجاوز عمره الأدبي 12 سنة، أنجز خلالها أكثر من 300 قصة عدا الروايات والمسرحيات، شهرته خارج فرنسا فاقت شهرته داخلها! من أشهرها قصة "حياة 1883"، "صديق مخلص 1885"، "بيير وجان 1888"، "قوي كالموت 1889"، "قلبنا 1890"، له ست روايات طوال كتبها بين عامي (1883 - 1890)؛ الصديق الظريف، مون أوريول، بيير وجان، قوي كالموت، قلبنا، حياة. وله يخت يسمى "الصديق الظريف Bel-Ami"، طاف به منتجعات النورماندي والريفيرا، وكتب رواية تحمل العنوان نفسه.

روى موباسان في "الصديق الظريف" قصة صعود صحافي لا موهبة له، أعطى صورة ساخرة مشوبة بالهجاء للمجتمع الباريسي؛ الوصولي الصغير "جورج دوروا" يعمل في السكة الحديد، له وجه جميل وضمير واسعٌ مرن، صديقه الصحافي "فورستيه" لا يكتب مقالاته، بل تكتبها زوجته الجميلة مادلين. يساعد فورسيه صديقه ليدخل بلاط صاحبة الجلالة، ويموت فورسيه بعد مدة وجيزة؛ ليتزوج دوروا من مادلين لتكتب له المقالات، وبعدما وجد بديلًا لمادلين، يبحث عن طريقة لإزاحتها من طريقه، ويفاجئها يومًا بخيانتها له مع الوزير المشهور، ويهرب دوروا مع ابنة عشيقته القديمة، هذه الابنة قد ورثت عدة ملايين بعد وفاة زوجها؛ ليصبح الوصولي جورج دوروا بارونًا وصاحب نفوذ.

مر الوقت سريعًا وسمعنا موباسان ينادي خادمه فرنسوا، وأدركنا أنه استعاد قدرًا ولو يسيرًا من عافيته، وقررنا الدخول عليه والحديث إليه عن علاقته بالمرأة، وأسلوبه في الكتابة، وسخريته اللاذعة وتشاؤمه الشوبنهاوري، وذكرياته مع أمه وقبل ذلك كله تتلمذه على يد فلوبير، وسننقل لكم بعض ما جرى في هذا الحوار قريبًا.