قرّاء الفنجان والمبصّرون

11 سبتمبر 2019
+ الخط -
الكثير من الصور الصارخة لفتت، في الواقع، نظرنا حيال العديد من قرّاء الفنجان والغيبيات التي كانت حتى وقت قريب خارج المألوف، وأثارت - بالتالي - بداخلنا ردود أفعال متباينة، حاولنا، وبكل تجرّد، لفت نظر إليها.

أخذ هؤلاء القرّاء "النصّابون" يمارسون هذا العمل اللافت تحت مسمّيات مختلفة في مجال قراءة الغيب ومعرفة دلالاته، وفكّ "المربوط" والتعرّف إلى الطُعم، بضمّ الطّاء، الذي سبق أن تناوله الشخص المقصود بأيادٍ خفية -كما يوحى إليه- بعيداً عن ناظريه، وتترك آثارها على جسد الإنسان، وقد تؤدي به إلى الموت المحقق -أحياناً- إضافةً إلى كتابة التعويذة، "الحِجاب" بكسر الحاء، والدجل، والشعوذة، وقراءة الكف والفنجان.

الكثير من الدلائل كنا قد تابعناها، وتعرّفنا إلى العديد ممن يمارس هذه المهنة التي صارت حرفة، وأيّ حرفة بالنسبة إلى هؤلاء الذين يتصيّدون بها الناس الأبرياء البسطاء من عامّة المجتمع، لا سيما وأنها صارت تدرّ دخلاً جيداً لهم، وأخذوا يمارسون نشاطهم وأوهامهم، في عزّ النهار في مختلف المدن السورية، وبعض ضواحيها.

هذه الأعمال "الشاذّة" ما تزال تشغل بال الكثيرين، وما يثير الاستغراب أكثر أنَّ المتعلمين المثقفين هم أوّل من أخذ بآراء هؤلاء المشعوذين باحثين عن حلول مزيفة ورخيصة على حسابهم، وحساب غيرهم من الناس، وابتزازهم، وللأسف، بالصورة التي يرغبون!


في مدينة الثورة السورية، التي تبعد عن الرّقة أكثر من خمسين كيلومتراً، التقينا مصادفةً بأحد العارفين بفكّ "المربوط" وكتابة الحجب، ومعرفة الغيب، وقراءة الأبراج. لم نكن نعرف أبا الماعز هذا إلّا من خلال شهادة أحدهم لنا بقوله: "تشاء الصدف أن أذهب بسيارتي مع أحد الأشخاص للمثول أمام هذا العارف، بعد أن سمع عنه ذاك الشخص، وعن إمكاناته، ومدى مقدرته في فكّ "الربط". كان الرجل غير قادر على الزواج ممن كتبَ عَليها العقد! إذ إن هناك حاجزاً ـــ سرياً ـــ بحسب أعرافهم ومعتقداتهم، ومن الممكن أن يعيقه عن إكمال عقد الزواج، ممن يرغب فيها زوجةً له، ولقاؤه كان هاجسه الأكبر الذي لطالما كان يراوده بين الحين والآخر".

ويتابع سائق التاكسي: "بالفعل، أخذ صاحبنا بدراسة شخصية هذا الرجل، واستدعى الذين لديهم القدرة على إبعاد هذا البلاء عنه، وعودة الرجولة إليه من جديد، التي افتقدها لعدّة أشهر.. وفي طريق العودة من مدينة الثورة، أحسّ الرجل بشيء غريب دبّ في أوصاله بعد فقدان الأمل في الزواج ممن أحبّها، بالرغم من أنه كان متزوجاً بامرأة أخرى من قبل، وأنجبت له عدداً من الصبية، ولم يصدق وصوله إلى البيت، ويحقق رغبته في الزواج من زوجته الثانية -الجديدة- وتحقّق حلمه الذي لطالما سعى إليه جاهداً، وعاد في اليوم الثاني -والكلام لسائق التاكسي- إلى دار أبو الماعز حاملاً البقشيش!".

ولمعرفة حقيقة ذلك، والتعرّف عن كثب إلى شخصية هذا القارئ العارف، التقينا به في داره المتواضعة، ومن بين الحضور طلب منه أحدهم معرفة ما إذا كانت تلك البثور الصغيرة التي طالما تظهر على سطح يده، بين فينة وأخرى، عائدة لنوع معين من الطعوم، التي يتمُّ استخدامها من قبل بعض الأشخاص محاولين الانتقام منه، راصدين تحركاته، وتطويعه لصالحهم، والخوف منهم، في حال إذا أراد الزواج من غير التي يحبها، ويعشقها، والتي رغب بها زوجةً، وهو بعيد عن معرفتها، ويكاد يدرك حقيقتها ويقع ـــ بالتالي ـــ فريسةً لمثل هذه الحكايا.

استمع صاحبنا إلى شرح الشيخ المطول، وتحذيره لأمثال هذه الخزعبلات، بل يفضل الابتعاد عنها كليةً، وأن هناك عدداً قليلاً ممن يستخدمون الجن لأغراض تمنع ما بين الحبيب وحبيبته!

أخذ الشيخ، بحنكة غريبة لفت نظر الحاضرين، متهيّبين من تحركاته التي تركت لديهم نوعاً من الحذر الشديد، وأخذ يكتب نماذج لم نعرف منها شيئاً باستدلال كتاب "شمس المعارف الكبرى" الذي دلّ به على رقم إحدى الصفحات بعد أن تعرّف إلى اسمه، واسم والدته، والتوصّل إلى معرفة برجه، وقرأ ما جاء في صفحات الكتاب.. بأنك أيها الشاب:

"ما أنت إلّا رجل مهذّب، وينتظرك مستقبل لا بأس به، وأنت رجل عصبي المزاج، ومقبل على سفر، لا تتردد، ورأسك دوماً يؤلمك. يبدو أنك لم تتزوج.. عليك بالزواج شفاء لقتل الهمّ الذي أنت فيه، كما أنه يلزمك فترة من الراحة".

وسأل -صاحبنا- العديد من الأسئلة للوقوف على حقيقة هذه الحكايات، وما مدى صحتها. قال، مستفسراً: "أريد أن أعرفُ لو كان القادم شخصاً آخر، وكان بالاسم ذاته، والأم نفسها، والعمر كذلك، فهل ما قرأته في رسالتك هذه سيكون مطابقاً لغير الشخص أيضاً؟".

تردّد الشيخ -الناصح- في إجابته، وتعثّر في نطق كلماته، وقال: "إنَّ الإجابة على هذا السؤال، تتغير في حال تغيّر طباع وتصرفات الشخص القادم إليّ، من أجل أن يستجلي ما بداخله من شكوك وقلق وهكذا دواليك".

أخذ ينتقل الشيخ لقراءة بخت آخر، وحظ قد يكون مماثلاً، وهكذا تستمر هذه القراءات بأشكالٍ عدّة، وبطرقٍ مختلفة، والنتيجة، كما ذكرنا هي "الضحك على اللحى!"، ولفلف صرّة صغيرة، أشبه بـ: (صُرّة عَرَبْ)، وهي مبلغ من المال غير معروف مقداره، محاولاً هذا الشيخ وغيره كسبه، وما زال الحبل على الغارب، بانتظار ضحية أخرى تدفع أكثر فأكثر، وهكذا دواليك!!

وفي حادثة أخرى، قد يكون فيها بعض الطرافة إلى حد ما، وتسابق إلى معرفتها، في حينها، كل من سمع بها في مدينة الرَّقة. هناك، وفي ريفها الشمالي البعيد، التقينا بأبي سالم، وقد تجاوز السبعين من العمر، وكان برفقتنا محمود الذي سبق أن فقد عددا لا بأس به من أغنامه "العَواس"، وفقدانها يعني فيما يعنيه الانتحار المُطبق بالنسبة لأهل المنطقة، لا سيما أنّها تُعدّ مورد رزقهم الوحيد، ولم يكفّوا عن البحث عنها يمنةً ويسرة، ولأيام طويلة خلت، وبالصدفة أشار إليه أحد معارفه بالذهاب إلى بيت أبي سالم، كما يؤكد السيد محمود، وهو رجل متعلّم إلى حد ما، ونظرته لا تخيب، ويقرأ الغيبيات بالشكل الذي أثار حفيظة كل من التقى به.


وبالفعل استدلَّ أبو سالم، بمعرفته وحدسه، وخبرته الطويلة، على مكان القطيع المفقود، في مكان ما، وتوجّه ملّاك الأغنام إلى حيث ذكر لهم، فوجدوها كما هي، بلحمها وشحمها!

هذه الصورة، في الواقع تذكّرنا بأنه على مبدأ "كذب المنجّمون ولو صدقوا".. فأيهما نصدق؟

هل نأخذ بهذه الصورة والعبرة، التي قرأنا فيها مواقف أبو سالم وحكاياته الغريبة والطريفة، وآخرها تلك التي دلّت على مكان الأغنام المسروقة، ووجودها في المكان الذي تمّ فيه تحديده من قبله أظهر أنَّ الرجل يمتلك المعرفة، وإدراكه هذه المسائل، يعلل ذلك، بقوله: إنّها تعود للخبرة، والحدس الذي جُبلت عليه!

ونقول نحن بدورنا: أيّ خبرة تلك! ورغم ذلك لم يخلص من الجدل الذي شاع في المنطقة، واختلاق الحكايا التي لم تنته بعد، بالرغم من حقيقة البرهان الذي أثبت صحة كلامه.. أم نأخذ بالصورة الأكثر وضوحاً، وهي أن ما لمسناه من خلال لقائنا بأبي سالم شخصياً بدا أكثر تواضعاً، ونضجاً، ومن كل الأقاويل التي حيكت بحقّه، إلّا أنّها تبقى صوراً هامشية، وبرهاناً يختصر الزمن!

وفي مكان آخر بعيد عن شيخنا أبو الماعز، والعزف على أوتار اختلاق الحكايات وتوليفها.. توقفنا عند السيدة أم سعد، قارئة الفنجان التي شرعت بحديث ليّن، وكلام منمّق، لا تمضي أيام قلائل حتى تكشّفت زيّف وادعاءَات هذه المرأة!

بعد احتساء القهوة، أصرّ مرافقانا على معرفة حظّهما، ودلائل الأيام القادمة، وأحلامهما السعيدة.. فحرّك كل واحد منهما ما تبقى من سائل القهوة داخل الفنجان عدّة مرات، ثم قلبه على قفاه، وبعد فترة قصيرة بدأت أم سعد بقراءة بخت صاحبنا، أبي شواخ، قائلةً:

"بانتظارك طريق طويل جداً، يوجد فيه جبال عالية، ورزقة كبيرة شبيه بالسمكة، وتؤكد ذلك، هذه الصورة.. انظر إليها. يقتنع صديقنا بينه وبين نفسه بهذه الصورة، وإن كانت ما هي إلا أوهام!".

وتتابع شرح ما صوّره فنجانه: "هناك اتصال هاتفي سيأتيك في القريب العاجل من امرأة، بمواصفات هي أميل إلى السمنة، وستطبق بوجهك سماعة الهاتف، ومطلوب منك زيارة ضريح ما، وسفر ينتظرك إلى مدينة قريبة، وسيرافقك شخص إلى مكان معروف وجهته في القريب العاجل".

وتكمل شرحها: "يوجد أيضاً ثلاث شمعات تنير دربك المظلم على بياض، وهذا دليل خير وسعد عليك، بالإضافة إلى رقم ثمانية، قد يكون أشبه "بالمصاري"، مبلغ من "الفلوس" في طريقه إليك من أحدهم، وهناك، أيضاً قباب كثيرة تشير إلى زيارة ما.. ومنذ حوالي يومين، سبق أن تشاجرت مع شخص، وموعود بشخص قادم من مكان بعيد، ويأتيك طير محمّل بالأخبار، وهذا دليل بشرى، وفرح!".

وبعدما أطبقت فنجان مرافقنا الأول نايف، تناولت الفنجان الثاني وكان لتركي، وقرأت فيه: "هناك تهديد من شخص ما.. وامرأة عيناها عليك، واسعتان كعيني البقرة! كما أنّ هناك شخصاً توفّاه الله غير طاعن في السن.. وخلال يومين سيكون بين يديك "فلوس كثيرة" وستقف أمام بيتكم سيارة، فيها العديد من الرجال، وامرأة وحيدة. وفي قعر الفنجان صورة لامرأة وجهها ممتلئ، وعيناها صغيرتان. يا لطيف مثل الأفعى، وأنت تقف بجانبها تنتابك الحيرة، وخائف منها، لا سيما أنها تجرّ عليك الويلات، ممسكة بيدها طفلاً صغيراً، وهذه المرأة لن تتركك بحالك، في الوقت الذي أنت فيه محاط بسجن كبير، مثل شبكة العنكبوت!".

هذا ما أفصح عنه شيخنا أبو الماعز، والسيد أبو سالم، وما قالته قارئة الفنجان أم سعد.

فهل ستطول معاناة شبابنا بالوقوف أمام هؤلاء المدّعين بالغيب، وأقاويلهم المزيّفة التي تخلو من الصدق! وللأسف يلجأ إليهم الكثير من الناس وفي وضح النهار وبكل رغبة، بالرغم من معرفة ادعاءاتهم الكاذبة والمزيّفة.

ومما لا شك فيه أنّ ضعف إرادة وقناعة هؤلاء ستوقعانهم في شباك المشعوذين، الذين يدّعون معرفة الغيبيّات، وبالتالي يفقد الشخص قناعاته ومواقفه الصحيحة، معتقداً وظناً منه أنّ هذا هو الحل الأنجع لحياته القادمة، وهذا ما يؤسف له!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.