أعلام الأدب (2): سومرست موم

04 اغسطس 2019
+ الخط -
في العشرين سنة الأولى من القرن الماضي، دخلت القصة طورًا جديدًا، لا سيما في إنكلترا والولايات المتحدة؛ فعرف الجمهور همنغواي، لورانس، وليم فوكنر، كاترين رامسفيلد، شروود آندرسون، أنطون تشيخوف، كيبلنغ، ويلز، موباسان، ستيفنسون، هنري، وكوبارد، لورانس ولكل منهم عالمه الخاص وطابعه المميز. 

كان الاعتقاد السائد أن الأقصوصة فنٌ يمارسه شبان الكتَّاب، كانوا بمثابة شعراء يحاولون أن يكتبوا نثرًا، وجميعهم لمع اسمه في دنيا الأقصوصة إبان شبابه، بل إن معظمهم قضوا قبل أن يصلوا إلى نصف العمر الذي بدأ فيه سومرست موم يكتب الأقصوصة! كان موم مختلفًا عن الجميع.

لم يدخل عالم القصة القصيرة (الأقصوصة) إلا بعد أن قارب الخمسين، ولم يتنبأ له أحد بالنجاح في مضمارها، لكنه أدهش نفسه قبل أن يفاجئ الجميع، لم تكن أقاصيصه أقاصيص هواة، لا هي عرجاء ولا شوهاء أو تتلمس الطريق، إنما نِتاج أديب متمكن من أدواته الفنية، استهلها بمجموعة "المطر".

يذكرنا في ذلك بالرسام الفرنسي بيسارو، جارى التطورات ونافس الشباب في متابعة المدارس الحديثة والإفادة منها، نلحظ ذلك في الهضبة عمرو دياب؛ فينافس الشباب في اللياقة البدنية وإيقاع الأغنية وأشياء أخرى.

لم يكن شاعرًا ولا مرهف الحس، شعوره بالبيئة من حوله ضعيف، لا يحسن كتابة العبارة الوصفية، لا تلحظ في كتابته عنفوانًا قط! أسلوبه -يومها- أشبه بكتابات جورج مور -منقبضة جافة- لكنه كان ينظر إلى نفسه بموضوعية صارمة؛ فلم يقلد أحدًا تقليدًا حرفيًا، بل احتذى أسلوب غي دو موباسان، ثم انتقل إلى طريقة صموئيل بتلر، وكان برنارد شو مدينًا بالكثير لبتلر كذلك.

يعد سومرست موم ضمن طائفة كتَّاب يُعمِلون الرَّوِيَّةَ، لا يثقون بالبديهة ويجيلون الفكر قبل أن يكتبوا؛ فلا يرتجل ولا يسترسل طوع الخاطر، أو وفق وحي اللحظة. في كتابه غير القصصي "عصارة الأيام"، استعرض سيرة حياته ومكاشفة قرائه، امتاز بوضوح الأسلوب وبساطته، آراؤه لها قيمة لأنها تسجل تجربة ذاتية، أكثر منها آراء لمذهب فكري نظري متعب في تجريداته. بينما كتابه "الخلاصة" -أو "التلخيص"- والمقدمات التي صدَّر بها بعض رواياته وأقاصيصه، تدل على معرفة واسعة بأدب النقد، وبها ملاحظات في طريقة موباسان وأسلوب تشيخوف، ونظرات جديرة بالتقدير والإفادة منها.

أترك المجال لضيفنا، وليسهب ما شاء، وليُطنب وإن أساء؛ فإن حياته -على ما فيها من أمور لا نوافقه عليها- تخدم في بعض جوانبها المبتدئ في دنيا الكتابة، وتضيف للمتقن وتجوِّد قريحته، ومن ثَمَّ فإنني أكاد لا أقاطعه أو أسأله، وسأترك له حبله على غاربه.


الإنتاج الأدبي

بطبيعته المتشائمة وتجهمه المُطبق، استهل موم حديثه قائلًا: بدأت حياتي الأدبية من دون موهبة طبيعية للكتابة، وأوحت لي دراسة الطب في لندن موضوع أول رواياتي "ليزا من لامبث"، وطُبِعَت سنة 1897، ومن يطلب تفاصيل أوفى فليرجع للجزء الأول من حديثي معك؛ فإني -والكلام لسومرست موم- لا أميل للتكرار.

تتألف حياتي الأدبية من ثلاث مراحل، وبالمناسبة لم أتعمد هذا التصنيف، لكنها الأقدار أو الطبيعة؛ فإنني ملحد ولا أتحرج في التعبير عن نفسي، وستسمع مني كلامًا قد لا يُعجبك، ولكني لست مهتمًا بانطباعات الناس عني. إن مراحل حياتي الأدبية سأخبرك عن تفاصيلها لاحقًا، وقتما نتطرق لقصة انتظاري الموت، وبإيجاز تنقسم إلى رحلتي مع الرواية، ثم رحلتي مع المسرح، انتهاءً برحلتي في عالم الأقصوصة والنقد.

مرحلة الرواية

بدأت بالرواية وأحرزت نجاحًا عظيمًا في "ليزا من لامبث"، بعدها كتبت رواية "تكوين قديس" ولم تنجح، وزرت إسبانيا وكتبت مذكرات ضافية، ولي كتابان عنها؛ "الأرض العذراء المباركة" عام 1905، ثم "دون فرناندو". تذبذبت نجاحاتي حتى قفزت قفزةً ولا قفزة فيلكس في رائعتي "عبودية الإنسانية" كتبتها سنة 1912، ونشرتها مع اقتراب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم روايتي الفضلى "كحك وخمر". 

لكن -قبل أن أكمل- اسمح لي أن أعتب على بعض المترجمين العرب؛ فهؤلاء أثقلوا كاهلي وأورثوني الحَنَق على العربية، فأحدهم يترجم رواية  "Human Bondage" إلى "العبودية الإنسانية"، وآخر يترجمها "الإنسان في الأسر"، وثالث ينقلها للعربية إلى"الضائعة"، ورابع يحلو له تسميتها "في عبودية البشر"، ما هذا يا ناس؟!

في "العبودية الإنسانية" ينتهي عمر البطلة في سن 24، وهو سني يوم أنجزت القصة، وعندما نفضت يدي منها لم تواتني الجرأة لقراءتها مرةً أخرى، لكنني عدت إليها مرة سنة 1945 لأسجل أجزاءً منها بصوتي، وحين قرأت وصف وفاة أم البطل لم أتمالك نفسي وبكيت منتحبًا. عنوان القصة أفدته من الفيلسوف سبينوزا القائل "إن خضوع المرء لعاطفته عبودية، أما استخدامه لعقله فحرية". صنِّفت إلى جانب روايات خالدة مثل "النمو والتعلم"، ورواية غوته "ولهلم مبستر"، ورائعة ديكنز "ديفيد كوبرفيلد".

أما قصة "كحك وخمر" فأحب القصص إلى قلبي، تعالج فترة عاطفية من حياتي، وشخصيتها الرئيسة "روزي" الفتاة الأرستقراطية الجميلة، كنت على علاقة بها، تناقلت الأوساط الأدبية القصة فور نشرها، وربطوا بينها وبين توماس هاردي، واتهموني بالتشهير، ونشر كاتب مغمور -لم أهتم به يومًا- يدعى آلنور موردنت قصة عنوانها " Gin and Bitter" يرد فيها على قصتي وهاجمني بعنف؛ فلم أهدر وقتي بمجاراته أو الرد عليه.

حمل عليه النقاد بعد رواية "كحك وخمر" حملة شرسة، واعتقدوا أنه ينال فيها من سمعة الروائي والشاعر توماس هاردي، في شخص بطل روايته إدوارد دريفيلد، والقصة تحمل خيوطًا تشبه ملامح من حياة هاردي؛ فإن هاردي ودريفيلد عاشا في أسرة فقيرة، وكانا ضعيفي البنية، مهتمين بفن المعمار، تزوجا مرتين، رميا بخشونة الطابع، أُبعِدت كتبهما من المكتبات، ورواية كأس الحياة لبطل الرواية لا تختلف عن "جودا الغامض" لتوماس هاردي، امتداد عمرهما من أسباب شهرتهما، وعاشا عزلتهما بمنزل ريفي تحت رعاية زوجتين تصغرهما بسنوات.

المسرح

في كتابتي المسرحية، تأثرت بالكاتب النرويجي "إبسن"، وكذلك "سودرمان"، ومسرحياته كلها من فصلٍ واحد. عام 1899، ظهر كتاب "توجيهات"، ضمَّ عددًا من الأقاصيص، وفي العام الموالي زرت كيت، وكتبت مجموعة روايات أولها "البطل"، وهي رواية ساخرة استقيت موضوعها من حرب البوير، وبعدها ظهرت رواية "مسز كرادوك"، وهي من أفضل كتاباتي، ثم كتبت مسرحية "رجل الشرف" ولم تنجح، ومع ذلك لم تحوِّل عزمي عن التأليف المسرحي.

أما كتاب الأرض العذراء المباركة فلم يلقَ نجاحًا يذكر، وقدَّمت مسرحيتي "السيدة فيدريكا"؛ فنجحت نجاحًا منقطع النظير، أجبر -هذا النجاح- مديري المسارح على التعاقد معي، وقبلوا أعمالًا مسرحيةً سبق أن رفضوها ووبخوا فكرتها وزاوية معالجتها! رفع موم رأسه مزهوًا وقال بينما يشير بسبابته إلى عنقه "في غضون أشهر، تبارت مسارح لندن في عرض 4 مسرحيات مختلفة للرجل نفسه وفي الوقت ذاته"، وبعد نجاح السيدة فيدريكا، انفتحت شهيتي للمسرح، يومها لم تكن السينما اتخذت مكانها الرائد، والمسرح سيد الموقف وصاحب الكلمة العليا.

رصيدي المسرحي 33 مسرحية منها "زوجة القيصر"، "أحسن فضائلنا"، "كاسب الخبز"، "الرجل الشريف"، "الرجل العاشر"، ومع ظهور مسرحية "آشبي" عام 1933، اعتزلت الكتابة المسرحية وتفرغت للقصص، ليس صحيحًا ما يتداوله بعضهم؛ فيقولون إنني أصبحت على درجة من الثراء مكنتني من الانصراف إلى كتابة ما أحب، ولذلك تركت الكتابة المسرحية. 

الواقع أنني ورثت عن أبي تركة تضمن لي حياة كريمة، لم أظفر منها بشيءٍ حتى وفاة عمي، وبعدها بسطت عليها هيمنتي، وهذا معناه أنني لم أكن بحاجة للربح المادي من الكتابة بالأساس، يدفعني للكتابة شغفي وولعي لتخليد اسمي بين عظماء الكتَّاب، ولست أبا الطيب المتنبي لأتوسل بكل أحد لأحصد مكانة أو أنال وساما! في مجموعتي الكاملة لم أختر من مسرحياتي سوى 18 مسرحية فقط، ويتوهم بعضهم أنني ما فعلت ذلك إلا لضعف مسرحياتي، كلا يا سيدي! إنما انتقيت أفضل الجواهر، ولم أشأ أن أثقل التاج بجواهره على بهائها ورونقها. 

لم أكتفِ بكتاباتي الروائية والمسرحية، إنما آثرت أن أطرق أبوابًا جديدة، وأن أدخل عوالم لم أعهدها سلفًا؛ فكانت أولى كتاباتي في دنيا الأقصوصة مع ربيعي الخمسين. لولا الشغف ما دخلت مجاهيل عالم الأقصوصة، دفعني لخوض غمارها شوقٌ لإثبات ملكتي الكتابية، وثقة اكسبتنيها الأيام وأفكار تبلورت لترتدي ثوب الأقصوصة القشيب.

القصة والأقصوصة

أول مجموعات موم "شرقيات 1899" وفيها ست قصص، ثم "اهتزاز ورقة 1921" وأخذ عنوانها من سانت بيف، وآخر قصة فيها قصة "مطر" المشهورة، أما المجموعة الثالثة فـ"شجرة الكازورينا" سنة 1956، ومن بعدها توالت قصصه القصيرة، وكلها في ثلاثة مجلدات ضخام.

وعن القصة والأقصوصة يقول موم: استلهمت هذه القصص من حياتي وتجاربي الشخصية، من أشهرها "القمر وست بنسات"، أخذت عنوانها من قول بعض النقاد في العبودية الإنسانية "إن موم يحاول الوصول إلى القمر، بينما لا يرى الست بنسات تحت قدميه"، وأراد الناقد أنني أطلب المستحيل ولا أقدر على الممكن؛ فتعمَّدت إغاظة الناقد واستعرت تعبيره عنوانًا لقصتي، مستخدمًا الحجارة لبناءِ السُلَّم المنورَق، وهذا ضربٌ من ضروب المنطق، ولمحة قد تفيد المبتدئ في دروب الأدب.

وتأتي -في القيمة الفنية- أقل من العبودية الإنسانية؛ فعلى روعة رسم الشخصيات فيها، فإنها ضعيفة البناء القصصي، لكثرة ما فيها من استطرادات وتأملات في الفن والفلسفة، وتستمد قدرًا كبيرًا من أحداثها من حياتي، وإن كانت بالأساس تستند إلى حياة بول غوغان. علقت زوجة غوغان على القصة بأنها لا ترى تشابهًا بين زوجها وبطل القصة، لم يكن ذلك لينفي ما أوردته؛ فقد وقعت في قبضتي أسرار تجهلها الزوجة!

مسكينة زوجة الفنان! ومسكين من يتزوج! أنا لم أطق حياتي مع زوجتي وتخلصت منها، سأخبرك لاحقًا بقصتي المريرة مع مؤسسة الزواج، واتضح لي أن موباسان كان محقًا حين رفض الزواج. على كلِّ حال، لم تعرف زوجة غوغان شيئًا عن نزواته في تاهيتي، لكنني اشتريت من سكان تاهيتي رسوم غوغان، رسمها لهم بعدما خالطهم وتزوج منهم، ثم تركها عندهم بعد وفاته، ومن أشهرها لوحة على باب، وضعتها في قصري موراسيك، أو قل قصري سابقًا!

أما قصة "حد الموسى"، آخر أعمالي، فبطلها "دارل" رجل شديد الغرابة، حائر يبحث عن المعرفة، ومن أجل ذلك طاف العالم حتى قادته رجلاه إلى الهند. في قصة "قناع مزوَّق يسميه الأحياء بالحياة" والمنشورة سنة 1952، شبَّهت الحياة بالحجاب المزوَّق.

صناعة الأقصوصة عسيرة دقيقة، وما أقل من يجيدونها! بالإضافة إلى القصص، نشرت 17 قصة أخرى ما بين عامي 1897 – 1948 ثم أعلنت توقفي إلى الأبد عن كتابة القصص. تعتمد شهرتي على القصص القصيرة، قبل أن أكون كاتب قصص طويلة أو مسرحيات، ولك أن تتذكر دخولي عالم القصة والأقصوصة في سنٍ متأخرة، لكن الأمل لا ينقطع مطلقًا، وهذه رسالة أوجهها للأدباء الشباب.

أتبع أستاذي موباسان وأدين له بالفضل؛ فالحادثة في القصة القصيرة عنده قبل الشخصية، والموقف القصصي أولًا، هذا من أهم الدروس التي أخذتها عنه، والقصة القصيرة في تعريفي الشخصي نوعٌ من الأدب التخييلي، يتناول موقفًا معينًا، قد يكون وصفًا لشخصية من الشخصيات، أو موقف من المواقف، وآثرت تناول المواقف القصصية لا الشخصيات.

لعل النقاد والكتَّاب في 2019، يرونني كاتب قصة من طراز ممتاز، قصصي بسيطة وحيوية وواضحة لا تتبنى التعقيد والتصنُّع، وهذا صحيح إلى درجة كبيرة، لا أقول ذلك امتداحًا لنفسي، لكنه انتصارٌ لمن يرميهم النقاد من معاصريهم أو لاحقيهم بالجمود، وقلت لك إنني لم أكن أملك أسلوبًا يؤهلوني للإمساك بالقلم، لكنني ثابرت وتتلمذت على كتابات موباسان، وأفدت منه ومن غيره حتى تحسَّنت طريقتي تحسُّنًا دفعك لزيارتي، والحديث إليَّ بعد ما يزيد على نصف قرنٍ من رقدتي.

أجهدتني يا هذا! سأقوم الآن لأعاود رقادي، ونلتقي قريبًا لاستئناف ما انقطع، وسيقف جمهورك على بعض التفاصيل الحصرية لحياتي الشخصية، وانتظاري الموت انتظارهم جودو! وقبل ذلك سأخبرهم عن طريقتي في الكتابة، وإن أشرت في ثنايا لقاء اليوم إلى شذرات من أسلوبي، وللحديث صلة.