إشكالية النقد والتقييم

19 يوليو 2019
+ الخط -
في المقهى الثقافي، تطوَّع أحدهم لاستعراض مادة كتاب، لم يكن الكتاب في نطاق اختصاصه، وقد اجتهد ليوصل الفكرة قدر استطاعته، وأراه وُفِّقَ إلى مدى كبير، وأفاد الحضور وحرَّك الأذهان للنقاش. لم يألُ بعضهم جهدًا في نقد الرجل، نقدًا تناسلت معه في ذهني صور قديمة؛ فرأيتني أنظر إلى الرافعي يجلد العقاد "على السفود"، وعبد الله النديم يُدمي قلب أبي الهدى الصيادي بـ"المسامير"، وتثاءبت ذكريات شتى.

وتذكرت صورًا من الجلد لا النقد، منها ما ذكره رئيس وزراء مصر الأسبق، الدكتور عبد العزيز حجازي؛ فإبان دراسته في جامعة بيرمنجهام، طُلِبَ إليه تقديم نقد ومناقشة كتاب في لندن، وكان نقده لاذعًا جدًا؛ فقد عمد إلى استعراض مهاراته، وتفنَّن في تقديم النقد، واهمًا أنه بلغ الغاية وأوفى على النهاية، لكنه أفاق على قول أستاذه الإنكليزي: "لا بدَّ أن تكون متوازنًا في رأيك"، ومزق المشرف البحث وألقى به في سلة المهملات.

يقول حجازي: علمني أستاذي أن أستخدم (أنا أعتقد I Think)، ولا أستعمل (أنا أجزم وأقطع Dogmatic)؛ فإن كنت تعتقد فإن لغيرك أن يعتقد، وعندها يكون التوازن. أما لو أنك تقطع بكل ما تقول؛ فقد انتقلت إلى الحاكم بأمره ومن حولك أغاوات! وازن في مصطلحاتك ومعتقداتك، وضع في ذهنك أن الحياة تعج بالمتغيرات، وكن متحفظًا في رأيك تعقُّلًا، وليس جبنًا وانطوائية.

وأفقت من سكرتي، لأتأمل موقف الرجل وقد اقتطع من وقته، ولخَّص وذاكر المادة العلمية، ثم جاء باذلًا نكيثته دون مقابل، ثم يسمع ما يندى له الجبين، وما أحوجه من الحاضرين لكلمة شكر أو صمتٍ لا يؤذي النفس، لكنما قيَّض الله لنا وله من تقمص دور محامي الشيطان! وقلت في نفسي: لا ضير! فإن عنترة الفوارس لم يرضخ للنقد اللاذع، وأفاد من النقد بما خلَّد ذكراه، ومن خالط الناس وصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.

إنَّ أخطاء الآخرين أكثر بريقًا في عيوننا، ومن أبصر زلته صغرت عنده زلة غيره، وتطفو الأخطاء كالقش على سطح الماء؛ فمن يرغب في اللؤلؤ يجب عليه أن يغوص إلى القاع، والنقد إن لم يوازن بين المحاسن والمساوئ، وإن تلمَّس مواطن الضعف والمثالب؛ فإنه يهدم ولا يبني، ويقوِض الجهود ولا يرفع البنيان. لا أقول لك جامل على طول الطريق، لكن في كلمة واحدة (وازن)؛ فاذكر شيئًا من هذا وشيئًا من ذاك.

وقال بعضهم بعدما سمع نقدًا مريرًا (فِينَا مَعَاشِرُ لَمْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمُ/ وَإِنْ بَنَى قَوْمُهُمْ مَا أَفْسَدُوا عَادُوا)؛ فخلع على النقاد صفة الهدم، وقطعًا لا نُقرُّ التعميمات إن سلبًا وإن إيجابًا؛ فالتوازن أولى وأنجع. يرى أبو عبيدة معمر بن المثنى في النقد منهجًا بديعًا، لم يكن من كيسه بل أخذه عن أبيه، وهذا المنهج يجنِّبُك الكثير من وحر الصدور. اسمع إليه وهو ينقل لنا هذه النصيحة المذَّهبة.

يقول أبو عبيدة: قال لي أبي "لا تحصين على ذي خطأ خطأ؛ فيستفيد منك علمًا ويتخذك عدوًا". أفاد أبو عبيدة من هذه النصيحة، لكنها لم تمنعه من مشاكساتٍ لم تنقطع مع صنوه ومنافسه الأصمعي، ولله درُّ الشافعي (لا تعطين النصح من لا يريده/ فلا أنت محمودٌ ولا النصح ينفعه).

جاءت على الناس أحايين مغبرة الأجواء، يظهر الكاتب الغر لأول مرة ممتطيًا صهوة النقد، ويبدأ والقدح أول كلماته والتجريح مطلع نفثاته، وهل حتمٌ على المبتدئ أن يستهل حياته بالنقد المرير والطعن والتهكم؟ الجرأة مزية من مزايا الأدب إذا عرفت مدارها ولم تخبط خبط عشواء، والنقد عماد الأدب الصحيح، لكن النقد إن مال عن النزاهة وآنس التحامل والطعن؛ فما قيمته المرجوة؟! والناقد الحصيف لا يجسِّم الأخطاء ويتعامى عن مواطن القوة والجمال؛ فإن ذلك غلو كبير.

ومن وحي ما سمعته في المقهى الثقافي، توافدت على ذاكرتي جيوش المواقف المشابهة، وإن كانت ذاكرتي قد أصيبت مؤخرًا بالهزال، لكن هذا ما تيسر وأنقل لك من جَعبة ذاكرتي -على حالتها تلك التي وصفت لك الآن- مواقف من نقد المبتدئين، وما شعروا به لاحقًا.

يحيى حقي وأمير الشعراء

كان عمه محمود طاهر على صلة وثيقة بأحمد شوقي –أمير الشعراء لاحقًا- وهذا أتاح ليحيى أن يلتقي شوقي مرات عدة في محل "صولت" الحلواني أو في بيته، وفي إحدى تلك المرات أعطاه شوقي قصته "أميرة الأندلس"، وهي مخطوطة؛ ليبدي فيها رأيه قبل النشر، يومها كان يحيى شابًا في السادسة عشرة، ويقول عن تلك الواقعة: "ومع ذلك فقد تجرأت ونقدتها بشيء من العنف، وكان ذلك غرورًا مني ندمت عليه في ما بعد..".

المازني وحافظ إبراهيم

في الصفحة (76) من كتابه "خواطر ثروت أباظة"، وفي كتابه "ذكريات لا مذكرات" صفحة (37)، وفي كتابه "لمحات من حياتي" صفحة (14) -أيضًا- يذكر أباظة أن إبراهيم عبد القادر المازني وقف -في ذكرى حافظ إبراهيم- بدار الأوبرا وقال: "لقد حاولنا -يقصد نفسه والعقاد- أن نهدم شوقي وحافظ ونقف على أنقاضهما؛ فما نلنا إلا من الحق ومن أنفسنا". 

أسرفت مدرسة "الديوان" في تحاملها على شوقي والمنفلوطي، وقد بلغ تحامل المازني على المنفلوطي فوق الأذنين، وأحصى المازني استخدامات المنفلوطي للمفعول المطلق؛ فوجدها 572 مفعولًا مطلقًا، وكأنه يحصي مثالب ومعايب!

ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فقد سأل ثروت أباظة، عميد الأدب العربي طه حسين، عن سبب مهاجمته شوقي؛ فقال حسين: لقد هاجمته في أشياء لا تتصل بالشعر، وإنما لأنه كان ينسب آراء أفلاطون لأرسطو! وما أسفت على شيءٍ أسفي على مقالات الهجوم. 

قبلها بسنوات، هاجم شوقي الزعيم أحمد عرابي بقصيدة مريرة مطلعها (صغارٌ في الذهاب وفي الإيابِ/ أهذا كلّ شأنك يا عرابي)، ثم ندم شوقي على هذا النقد لاحقًا، وتأسَّف تأسُّف طه حسين، وربما تأسُّفًا أشد لنفسية الشاعر المرهفة، ومن أعمالكم سُلِّطَ عليكم!

توفيق عواد والمازني

في سن الثامنة عشرة، وبعد قراءته عددًا من الكتب، من بينها كتاب الأغاني، ارتأى توفيق يوسف عواد أن يكتب نقدًا في المازني، والمازني يومها علمٌ من أعلام الأدب العربي، وأسدى عواد النصح للمازني وتخيّر لمقالته عنوان "أخي إبراهيم". بالطبع لم يرد المازني على الرسالة، وبعد حوالي 75 عامًا من هذه الواقعة يقول عواد: "أقف عند هذا الحدث بكثيرٍ من الدهشة، وأطلب من المازني -في قبره- العفو والمغفرة".

ثروت أباظة وأحمد أمين

في مدرسة فاروق الثانوية، وكانت من أفخم مدارس مصر يومها، وفي سن السادسة عشرة، كتب ثروت أول مقالاته، وكان سبب ذلك أن مدرس اللغة العربية الأستاذ ضاحي قد طلب من التلاميذ كتابة موضوع إنشاء؛ فكتب ثروت الموضوع وفيه الفعل تساءل، لكن الأستاذ ضاحي رأى أن الفعل تساءل على وزن تفاعل ولا يكون إلا في تبادل الشيء بين شخصين، وبالتالي فاستعماله هنا غير صحيح. 

عاد ثروت إلى القاموس، وتبين له خطأ الأستاذ، وكان خطأ المدرس يومها من الكبائر؛ فاستل قلمه وكتب كلمة عنوانها "تصحيح أوراق"، وقرأ الكلمة الأستاذ عثمان نويّه وكان صديقًا لثروت ووالده، وفي الوقت ذاته كان ابن صديق أحمد أمين -عميد كلية الآداب ورئيس تحرير مجلة الثقافة- وهو بمثابة الابن الروحي للعميد. 

عرض نويّه الكلمة على العميد، ولما سأله العميد: هل هي لمدرس زميلك؟ فأجابه: بل لمحامٍ صديق؛ فرضي العميد عن الكلمة ووعد بنشرها. نشرت الكلمة في مجلة الثقافة بتوقيع "تلميذ قديم"، وكانت وأختها الرسالة محط عناية واهتمام أهل الأدب والثقافة في مصر، وقد فهم زملاؤه في الفصل أنه كاتب الكلمة؛ فدعاه ناظر المدرسة نجيب بك هاشم، وطلب إليه في لطف وكياسة ألا يهين أساتذته؛ فقال ثروت أباظة: "ما دمت أملك قلمًا؛ فلا يستطيع أحد أن يظلمني". 

بعد خمسين عامًا قضاها في عالم الكتابة، يعلق أباظة على هذا الرد قائلًا: "لك أن تقدِّر كبر هذه الكلمة من صبي يافع ما زال تلميذًا بالثانوي، ولم تنشر له إلا كلمة صغيرة دون توقيع! وحتى يومنا هذا كلما ذكرت هذه الكلمة تأكد عندي أن الغرور لا يكون إلا مع المبتدئين، وأنه يتلاشى ويتخافت ويذوب كلما كبر المرء وبلغ مبالغ النضج".

ثروت أباظة ويحيى حقي

بعد نشر عزيز أباظة مسرحية "العباسة" نال عنها درجة الباشوية، وهي مسرحية شعرية، امتداد للمسرح الشعري وضع لبناته الأولى أمير الشعراء أحمد شوقي، ولكن عزيز أباظة اهتم بالبناء المسرحي بما يفوق اهتمام شوقي. كتب يحيى حقي نقدًا للمسرحية، ولم يرها جديرة بالاهتمام، وقرأ ثروت أباظة ما كتبه حقي، وقرر الرد عليه. 

كتب ثروت مقالًا عنيفًا يهاجم به حقي، فإن عزيز أباظة عمه -ووالد زوجته لاحقًا- وصادف أن توفيت زوجة حقي -أم نهى- في هذه الأيام؛ فاتصل الأستاذ الكبير، أحمد أمين بثروت أباظة، ورجاه أن يخفف من حدة المقال؛ نظرًا لما يمرّ به يحيى حقي، وإلا فالأمر له، والمقال سينشر كما هو.

وافق ثروت على طلب العميد، وقد كان ثروت يومها طالبًا بالثانوية العامة، ولم يشأ أن يخذل العميد، وقد حدَّثه كوالده وليس بصفته رئيس تحرير المجلة. بعد مدة، قرأ إبراهيم دسوقي أباظة رواية "قنديل أم هاشم"، ورشحها لابنه ثروت فقرأها، ثم التقيا في وزارة الخارجية، يوم كان إبراهيم دسوقي أباظة وزيرًا للخارجية، ويحيى حقي مديرًا لمكتب وزير الخارجية، وقال حقي للوزير: هذا ثروت! عرفته من قبل أن نلتقي؛ فقد قرأت مقاله.