مع بداية المشوار..

مع بداية المشوار..

24 يونيو 2019
+ الخط -
إن كنت مبتدئًا في مجال ما، فاحذر الحكمة القائلة "ركز على نقاط قوتك"؛ فلها مفعول مؤثر وإيجابي حتى حد معين، وبعده يجب أن تتمرد عليها وإلا فإنك تتقولب وتتصلب ولا تعرف التجدد، فيلفظك الناس من حولك.

وقبل قرون، كان ابن السِّماك يعظ النَّاس، كان يستهويه التكرار ويراه أدعى لاعتناق الفكرة، وتنفيذ متطلباتها وتحقيق مرادها، وفي بعض الأيام قال لجاريته "أأعجبكِ ما قلت؟"، قالت "إي! إلا أنك تُكثِر تكراره"، ولم يتوقع منها هذا الجواب، كان ينتظر أن تطري على طريقته وتمدح فكرته.

تمالك أعصابه وقال لها "أكرره ليفهمه من لم يفهمه"، وهذا رد ينم على كثيرين من مرتادي المنابر وأصحاب الخطبة الواحدة؛ فيصطدم نهجهم بل ويُنسف بقول الجارية "إلى أن يفهمه من فهمه، يكون قد ملَّه من فهمه". من لم يتجدد يتبدد، ومن لم يتقدم يتقادم، ومن يراوح مكانه فلن يرى أبعد من تحت قدميه، ولك أن توازن وتزِن، ثم تختار ولا تحار.


قديمًا قالت العرب "إن الموصين بني سهوان"، وصدقوا فإننا ننسى من وقتٍ لآخر، ونحتاج إلى التذكرة من آن لآخر، لكن قطعًا ليس إلى أن تكون التذكرة بنفس منهجية الإعلانات التلفزيونية يتكرر الإعلان الواحد كل دقيقتين! هذا يضجر الناس ويخلق عندهم كللًا ومللًا من هذه التذكرة المبالغ فيها، وهذه أكثر من "أوفر دووز".

كي تحقق شيئًا لم تحققه من قبل، عليك أن تكون شخصًا لم تكنه من قبل، تعلَّم مهارة جديدة ولا تتكبَّر أو تخجل؛ فضياع العلم بين الكبر والحياء، ولتضع نصب عينيك أن كلَّ مهارة يمكن تعلُّمها، ولربما كنت على بُعد مهارة واحدة تغيِّر خريطة حياتك، أو تعدِّل مسيرة المجتمع من حولك، وقد تلهم الناس في العالم من حولك.

وطِّن نفسك على الطرق الجديدة والمساحات الخالية، وعالج الطرقات غير المأهولة؛ فالطرق المعبَّدة لن تقودك لكنز مطلقًا، بينما سلوك سبل جديدة يُحتمل أن يصنع لك تاريخًا مجيدًا. احلم أحلامًا كبيرة، وطوِّر لنفسك صورة ترى فيها نجاحاتك، تصرف وكأنك ناجح بكل ما تفعل، ليس تصنُّعًا وتعاليًّا على خلق الله، وإنما تعزيزًا لثقتك بنفسك وتشجيعًا لها، ثم تقحَّم جسيمات الأمور ولا تنزوي في ركن مظلم، أو تتقوقع في دائرة راحة.

ينصحك الدكتور ماكسويل مالتز بالتظاهر المبدئي بالثقة والنجاح وقوة الشخصية، ويبشرك بأنك لن تحتاج للتصنُّع طويلًا؛ فعما قريب تصبح هذه الصفات المرغوبة من بين صفاتك الأساسية، وفي تعليل ذلك يقول: "إن عقلك الباطن لا يفرِّق الخبرة الخيالية والخبرة الحقيقية؛ ففي كلتي الحالتين يستجيب ميكانيكيًا للمعلومات التي تزوِّده بها، ولا يزعجك بتحليلها وطلب البراهين على صدقيتها".

الأمر لك؛ فلتعش في جو البطل، وتتخيل كيف يتكلم البطل وكيف يتصرف، عندها ستنطلي المسألة على عقلك الباطن، تمامًا كما يقنعنا أبطال الفن بإتقان تقمصهم أداء أدوار الشخصيات. إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل أن تخترعه، وليس كافيًا أن تملك عقلًا ألمعيًا، بل المحك أن تستخدمه وتستثمره لتحقيق أهدافك (وحقيقةُ الدينارِ يظهرُ فَضْلُهَا/ مِنْ حَكِّهِ لَا مِنْ مَلَاحَةِ نَقْشِهِ).

كل شيء ممكن إنجازه إن أردت، ضع الأمر في حسبانك واشغل به كل تفكيرك، وعندها ستدهش العالم من حولك، وقبلها ستدهش نفسك بما أنجزت وحققت. كم مرة كابدت مرارة لثغة الراء، ورددت في نفسك أو بين أقرانك وفي دائرتك الضيقة "أيتها الراء اللعينة!"، وزفرت زفرة طويلة وربما ربت أحدهم على كتفك وانتهى المشهد، وكأن شيئًا لم يكن؛ لتستيقظ صباح الغد واللثغة على حالها وأنت محلك سر.

انظر هنالك، هذا أبو حذيفة واصل بن عطاء، كان يعاني أشد مما تعانيه أنت، ولا تقل لي: كيف تجرؤ أن تقول ذلك؟ هل شعرت بما يعتمل في صدري عند نطق الراء؟ لا.. لا يمكن أن يكون واصلٌ هذا أشد بؤسًا مما ألمسه في عيون الناس ونظراتهم التي تجلدني وتسخر مني كلما تعثرت بالراء.. هذا الحرف اللعين! ولأقطع عليك الحِجاج في هذا، سأطرح عليك سؤالًا واحتفظ بإجابته بين جنبيك: كم أقصى عدد تحدثت فيه أمام جمهور؟ هل ناظرت أو جادلت علماء أو فقهاء يخالفون مذهبك الفكري أو العقدي أو الإيديولوجي؟

كان واصل بن عطاء ملزمًا بتجنب الراء، وبعدما لمس تغامزهم به وتندرهم عليه حين يتخبط فيها تخبط الطفل في جلباب والده، انفرد بنفسه وعزم أن يستبعد الراء من حديثه، وبعد محاولات ومحاولات صدقت فيها نيته مع نفسه، نجح في تخطي حاجز الراء، وسطرت لنا كتب الأدب والبلاغة خطبته التي مثلت انتصار إرادته، ولن تجد فيها راءً واحدة.

إن كان بمقدور واصل بن عطاء أن يفعلها، فأنت لست أقل منه إلا في ترددك وتكاسلك، وإلا فالأمر هين، ومن طلب شيئًا أدركه أو كاد.

إن صحّ أنّ أول ما ورد في التوراة "في البدء كان الكلمة"، فإن الكلمة أول كل مشوار، أول الحب كلمة، وأول الحرب كلمة، وبين الحب والحرب راء، ربما تكون هذه الراء الوحيدة اللعينة، لكنما لكل راء جمال وجلال، وأول نجاحك أن تقرر بكلمة، وأن تشحذ همتك بكلمة، وأن تثبت أمام الأهوال بكلمة، وأن تشق طريقك بكلمة، وأن تلتمس لنفسك حسن السيرة بكلمة.

ولعلَّك تذكر أن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ثبت يوم صفين بكلمة رددها على مسمع نفسه، هي كلمة عمرو بن الإطنابة "وقولي كلما جشأت وجاشت"، واستمال الناس في خلافته بكلمة؛ فكانت كلمة معاوية وشعرة معاوية مما اجتذب القلوب.

أتخشى أن تخطئ؟ يقول بعض الحكماء "من ليس له خطأ بالحياة أشبه بالحيوان الأبله"، أيعجبك أن تكون حيوانًا؟ فإن أجبتَ بالإيجاب - وحاشاك - أفيرضيك أن تكون حيوانًا أبله؟! لا أرتضيها لك، ولن ترتضيها لنفسك ولا لمن حولك. وتأسيسًا عليه، فإن من البدهي أن تخطئ وتتعثر، ثم تنهض وتحاول من جديد، وعلى طريقة المسيح "من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر"، ومن ثَمَّ لن تجد مجرِّبًا يقسو في نصحه ونقده، ولذلك يقولون "إدي ابنك للي له عيال"، فإنه يدرك حكمة التربية وخبرتها فيعالج الأمور بعقلية الأب والمؤدب المشفق، ولا يتعامل بالسيف والنطع ومنطق الجلاد.

أتشعر بالرهبة والخوف؟ إنهما دليل أنك تحاول شيئًا جديدًا، وتخرج عن دائرة الراحة، وتخطو في طريق غير مطروق، وتلتمس سبلًا تضيف لمهاراتك وتعزز مكانتك وتصقل موهبتك، وماذا يريد أحدنا إلا أن يصل لهذه المرحلة؟! لا شيء يعرقل الناس عن النجاح وتحقيق مكاسب جديدة إلا أن يركنوا للخمول، وأن يروا في طريقتهم القديمة الملاذ الآمن.

وأنقل إليك عن الشاب الظريف قوله (سأجهدُ إما للمنايا أو المنى قُصاراي/ إما النصر أو ما جنى النَّصلُ/ فإن لم تصلني همتي بمطالبي/ ولم ينتسج للشَّيبِ في لُّمتي غزْلُ/ فلا نظرت عيني ولا فاه مِقْوَلي/ ولا بطشت كفي ولا سعت الرِّجل/ ومن عرفَ الأمرَ الذي أنا عارفٌ/ رأى كلَّ صعبٍ كلُّ إدراكِه سهلُ/ خُذِ العزَّ من أي الوجوه رأيته/ فلا خير في عيشٍ يكون به الذُّلُ).