الخطبة الارتجالية

27 مايو 2019
+ الخط -
تقول العرب "أول العي الاختلاط"، والعي عجز المرء عن التعبير، والاختلاط هنا يراد به الغضب؛ فإن الغضب يمنع الشخص من ترتيب أفكاره، ويحول بينه وبين التعبير عما يجول في صدره، ولذلك قالوا "أحضر الناس جوابًا من لم يغضب".

الخطبة الارتجالية تنم عن ثقافة المرء وسرعة بديهته، وتسلط الضوء على استعداده الفطري للتعامل مع المواقف الحرجة أو الطارئة، وقد تحملك الظروف لتقديم خطبة ارتجالية أمام مديرك أو زوجك أو ولدك، ما يعني أنها خطبة حتمًا تعرضت لها أو ستتعرض لها. البعض يستولي عليه القلق، والبعض يعاني توترًا لحظيًا، وآخرون يضعون في حسبانهم أن الأمر وإن كان طارئًا إلا أنه فرصة للتألق؛ أليس كذلك؟

التألق في الخطبة الارتجالية ليس بالصعب ولا المستحيل، ويعتمد على خطوات ثلاث للخروج بأفضل صورة؛ فالثقة بالنفس الركيزة الأولى، ثم الإيمان بأن الجميع يشعرون نفس شعورك الآن، والتنفس! لا أقصد التقليل من شأن الأمور الأخرى، لكن لو ركزنا على تفعيل الثقة بالنفس والموضوعية وتنظيم التنفس؛ فالنتيجة سترضيك وستعزز فرص نجاحك في ميدان الحياة بشكلٍ عام.


أنت تعلم أن الثقة تنتقل انتقال الحماس إلى الآخرين، وبما أن الحماس يُعدي فإن الثقة تنتقل لمن حولك، ويثقون بقدراتك ثم يثقون في أنفسهم بما قدمته لهم من حوافز تشجعهم، وبالتأكيد فأنت تعلم أن الثقة لدى كثيرين مكتسبة وليست فطرية، ويمكنك اكتسابها لتبدو أمام الناس واثقًا من نفسك، وإن كنت تشعر بتيار من التوتر والقلق لا يراه الناس.

عليك الآن أن تنمي مهارات الثقة بنفسك، وأن تتظاهر وكأنك الشخص الأكثر ثقة في نفسه على وجه الأرض، لا أحثك أن تغتر بذاتك أو تتكبر، فقط أن ترفع من نسبة هرمون الثقة، وهذا يفي بالغرض لتكتسب قلوب الناس وأسماعهم، أما الكِبر فيخلع عليك خلاف ما ترمي إليه جملة واحدة.

الخطوة الثانية لا تقل قيمة عن الأولى؛ فثقتك بنفسك توحي إليك أن الأغلب الأعم من الناس يشعر بما تشعر به، ولست في حاجة إلى تصور من حولك على أنهم يمسكون بأطراف أي موضوعٍ يطرح عليهم، بينما أنت وحدك الذي لا تعرف شيئًا على الإطلاق. لديك ما تقوله وتفيد به، فسيطر على توترك وابدأ الحديث بابتسامة وثقة، وستجد أنك أفضل حالا مما تظن، ولربما تتعثر أو تنسى أو تجد دماغك وقد انقلب إلى صفحة بيضاء؛ فالكلمات تستعصي عليك والأفكار تهرب والأمور على غير ما تريد! عندها اسلك مسلك الكبار؛ فتعامل بهدوء وثق أن هذا الموقف لن يتعرض له من التصقوا بالمقاعد، إنما من يقف للحديث يتعرض له غير مرة، وهؤلاء يطورون مهاراتهم، أما القاعدون فلا.

ولعلك تشعر بإحراجٍ شديد، وتحدث نفسك أنها المرة الأخيرة التي تتصدى فيها للحديث، وقد تقرر الانعزال والتقوقع، وتترك الميدان لفرسانه وسدنته، وهذا ليس بالقرار الحكيم؛ فانظر مثلًا إلى روح بن حاتم وقد صعد المنبر؛ فضاعت الكلمات من رأسه، ولم يجد ما يتحدث به فقال: "نكِّسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم؛ فإن المنبرَ مركبٌ صعب، وإذا الله يسر فتح قفلًا تعسر"، ثم نزل. لم يجلد ذاته ولم يعض الأنامل من الغيظ، وروحٌ هذا فارس مغوار، وجده المهلب بن أبي صفرة الأزدي من فرسان العرب الشجعان والخطباء المفوهين.

وأشعر بابن حاتم يواسي نفسه: "لعل اليوم ليس يومي، ولكنني سأقف مرة أخرى وأعبر عن ما يجول في صدري أحسن تعبير". هذا سلوك يتعين عليك الإلمام به وألا تبالغ في الخجل من هروب كلماتك وأفكارك؛ فكلنا هذا الرجل، وانظر هنالك تجد عدي بن أرطأة واقفًا على المنبر يطالع الناس وينسى كل شيء؛ فيقول بصوتٍ مسموع: "الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم" ثم ينزل.

الأمثلة على النسيان والحصر والعي والإرتاج كثيرة، وسنتطرق لها ونحللها ونفيد منها، لكن المهم أن الجميع يخاف الوقوف أمام جمهور، والجميع يخطئ وينسى ويتلعثم قبل أن يصبح الخطيب المصقع والمتحدث المفوه؛ فلا تجلد نفسك ولا تهرب من الميدان، ولا تغضب.

إن في قولهم "أول العي الاختلاط" من الإشارات البديعة والعلامات الصريحة ما يأخذ بيدك، ويضعك على الطريق الرشيد لتجنب الضياع والتشتت؛ فالغضب صدأ العقل، وما إن تنشب حرائق الغضب حتى تأتي على أعصابه وأفكاره وتعبيره؛ فإذا به يتقافز قلبه بين ضلوعه، ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه، وتتسارع أنفاسه كأنها يَصَّعَّدُ في السماء، وتطفر حبات عرقه شلالًا في الشتاء القارس، ولعله من شدة الارتباك يردد مع خالد بن عبد الله القسري قولته "أطعموني ماء"!

ومن علائم الغضب رفع الصوت في غير حاجة، وقد تكلم رجلٌ يدعى عبد الصمد في مجلس المأمون؛ فغضب حتى ارتفع صوته وخلط في كلامه؛ فقال له المأمون: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد! إن الصواب للأسدِّ لا الأشد (يريد أن الصواب لصاحب الرأي السديد، ليس للأعلى صوتًا).

هذه واحدة من حالات الطوارئ التي يتعرض لها المرء، ويحتاج إلى معرفة مخارج الطوارئ، وأن يوطِّن نفسه على التعامل معها، وكل ما عليك أن تمارس الاسترخاء، وأن تنظِّم تنفسك ولا تترك نفسك نُهبة للغضب أو القلق المرضي.

الوصية المحمدية الخالدة "لا تغضب" تحول بينك وبين كثير من منغصات الخطابة والحديث أمام جمهور، ومهما بدا الموقف صعبًا فإن ضبط أعصابك ينقذك؛ فلتثق في نفسك وتسيطر على غضبك لتقف شامخًا مثل المآذن طولا.