ومن شرّ هابدٍ إذا هبد!

ومن شرّ هابدٍ إذا هبد!

17 فبراير 2019
+ الخط -
أخونا المحترم بيت هيغزيث هبد هبدة محترمة، ولمن لا يعرف هيغزيث فهو مقدم برامج في محطة فوكس نيوز، وهو بالمناسبة ليس رجلًا أميًا، بل خريج جامعتي هارفارد وبرينستون..

الهبدة غريبة بصراحة خصوصًا أنه إعلامي، ويفترض أنه ينظر في ما يعرف بـ "اليوم العالمي"! فاليوم العالمي للسرطان، والسكري، والكبد، وغيرها الكثير ومن بينها اليوم العالمي لغسل الأيدي.

رفع هيغزيث عقيرته بأنه لا يؤمن بوجود الميكروبات! ده كلام سخيف يا عم هيغزيث، أنت لست في بلاد الواق واق، أنت تعيش في أرض الأحلام، وربما تعايش التكنولوجيا الحديثة من حولك؛ فزيارة واحدة لمعمل "باثولوجي" تغير فكرتك عن الميكروبات، وتنقلك من المنكر لوجودها إلى المؤمن بها إيمانًا لا يقبل الهرتلة والجدل.


ولا تختلف هبدة هيغزيث في إنكاره لوجود الميكروبات عن معلقي كرة القدم العرب؛ فالواحد من هؤلاء المعلكين (بالكاف) لا يؤمن بعبثية (هكذا)؛ فتراه يستعملها قبل كل مفردة أثناء تعليقه ليقول: هكذا تمريرة، وهكذا تسلسل، وهكذا تغيير، وهكذا قرار، وكأن المعلق الكريم قد أصيب بحمى هكذا، ولم يخبره أحدهم أن (هكذا) لا تستعمل هكذا "عمال على بطال".

نرجع للأخ هيغزيث وعذره الأقبح من الذنب؛ فالرجل لم يغسل يديه عشر سنين، ويبرر ذلك أنه لا يؤمن بوجود ميكروبات. ألم تسمع عن لويس باستور؟ وهل أتاك نبأ يانز سيملويس؟ أم أنك عايشها كده بالطول والعرض وبالهبولي! عاش أنطوني ليفينهوك (أبو الميكروبيولوجي/ علم الأحياء الدقيقة) في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وأفاض في الحديث عن الأحياء الدقيقة، ثم اكتشف لويس باستور دور الجراثيم (الميكروبات) ودحض نظرية التوالد التلقائي، وابتكر طريقة البسترة لقتل الجراثيم في اللبن، وقطع العلم أشواطًا طويلة في إثبات وجود الميكروبات، وأفنى علماء أعمارهم في هذا الميدان، وقبل أيام ربط العلماء بين بكتريا المعدة والاكتئاب.

ومع كل هذا، يأتي الظريف هيغزيث ليتباهى بأنه لم يغسل يديه عشر سنوات، يا رجل الله يقرفك! ويقول خريج هارفارد وبرينستون (وأرجوك لا تضحك منه.. على الأقل حتى يفرغ من كلامه): إن الميكروبات غير موجودة؛ لأنها لا تُرى بالعين المجردة! هل حدث مرةً يا أخ هيغزيث أن رأيت الهواء؟ سمعتك تقول: طبعًا مستحيل! وهل معنى استحالة رؤية الهواء بالعين المجردة أنه غير موجود؟!

يوافق اليوم العالمي لغسل اليدين منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وقد أثبتت دراسات لا حصر لها خطر الأيدي في نقل العدوى بنوعيها؛ العدوى الذاتية وعدوى الآخرين بالجراثيم المختلفة، بل إن بعض الدراسات تشير لخطر الجوال ومقابض الأبواب وصنابير المياه على صحة المرضى، وأن هذه الأماكن بالإضافة إلى مقاعد التواليت بها نسب عالية جدًا من الميكروبات الكفيلة بإنهاء حياة المرضى ولا سيما ذوي المناعة المنخفضة.

لقد دفع يانز سيملويس حياته في محاولة يائسة بائسة لإقناع أسلاف هيغزيث! لا تتصور أنني أبالغ في ذلك قيد أنملة؛ فقد كان مستشفى فيينا العام مسرحًا لوفيات النساء، الواحدة منهن تلد ولا تقوم بالسلامة؛ فتخطفها حمى النفاس وتغيِّبها إلى يوم الدين. عكف سيملويس يدرس الموقف، وبإجراء مقارنات بين عنبرين في نفس المستشفى، تبيَّن له أن العنبر الأول وصلت نسبة الوفيات به إلى 18%، بينما الآخر لا تزيد نسبة الوفيات عن 4% فقط، وهو فارق كبير للغاية.

وأوصى سيملويس زملاءه الأطبّاء بغسل أيديهم قبل وبعد توليد السيدات، وحدد لهم "كلور الجير" كأفضل مادّة مطهِّرة ومعقِّمة - على أيامه - لتقليص عدد وفيات النساء.

رفض الأطبّاء الموافقة على مقترح سيملويس السخيف، ورموه بالجنون لأنه يزعم أشياء لا معنى لها، وأودعوه مصحّة عقلية - تحت إشراف الشرطة - بعدما أجبروه على تطليق زوجته، ثم "كرمشوا" ورقة بخمسين فرانك سويسريًا معتبرًا لعساكر المصحة، وأوصوهم باحترامه قدر الاحترام؛ فانهالوا عليه احترامًا جاب أجله. بعد موت سيملويس كمدًا وركلًا، اكتشف الزملاء صحّة ما ادعاه، بل سُميِّت أرقى جامعة في العاصمة المجرية بودابست "جامعة سيملويس"، وبعد كل ذلك يقول خريج هارفارد وبرينستون: "مفيش جراثيم"!

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وقنا شر الهابدين في الأرض، ولا تفقع مرارتنا بما نسمعه من هبدهم.