نكبة الأصفهاني في كتاب الأغاني

02 ديسمبر 2019
+ الخط -
عجيبة هي سيرة الخليل بن أحمد الفراهيدي، رجل آلى على نفسه أن يعتزل النعيم، وأن يعيش في كوخٍ، قانعاً بما يسدّ الرمق، وطلابه يأكلون بعلمه! ويدور الزمان دورته ويتعاقب الحدثان، ومعهما ينبه ذكر أبي الفرج الأصفهاني، ويضع كتاباً من أمهات كتب الأدب العربي، ويأتي من بعده من يأكل على مائدته دون وجه حق!

كان الفراهيدي قانعاً زاهداً في الدنيا وما فيها، أما الأصفهاني فرجل بحبوح فرفوش باحث عن المتعة، يأنس بالمال وسعة الأحوال، وأغلب الظن أن صدره يضيق بما يفعله كثيرون الآن بإرثه الأدبي. شغلني هذا الهاجس وأنا أطالع كتاباً عنوانه "طرائف الأصفهاني في كتاب الأغاني"، ورددت قولة سُمعت كثيراً: "مسكين أنت يا صاحب الأغاني"!

صدر كتاب "طرائف الأصفهاني في كتاب الأغاني"، عن دار الكتب العلمية، وتجد في هذا الكتاب نكبة جديدة، نكبة من العيار الثقيل، إذ لم يتبنّ المؤلف نهجاً واضحاً في عرض المادة، وقفز قفزات غير متزنة بين أجزاء الأغاني، فانعكس ذلك على ما اقتطفه من بستان الأصفهاني.


وإليك بعض الأمثلة السريعة من هذا الخلل. ففي مقدمة الكتاب، ذكر المؤلف تحت بند "عملي في هذا الكتاب" بالحرف الواحد: "حذفت ما يلزم حذفه من الألفاظ غير الأخلاقية، وتلك التي تجرح الحياء وتخدش الشعور والمشاعر، واستبدلتها بنقاط (...) تدل عليها أو بغيرها من الألفاظ المأنوسة"، لكنك تجده يضرب بهذا عرض الحائط غير مرة في ثنايا الكتاب، ومن ذلك ما أورده في الصفحة 325 تحت عنوان "خذ الدنانير".

في هذا الخبر، ينقل المؤلف - بعد اختزال السند الطويل - ما أورده صاحب الأغاني نقلاً عن زكريا بن مهران، وفيه أن أبا الشمقمق سأل سلم الخاسر أن يهبه شيئاً، ولم يجبه الخاسر؛ فقال أبو الشمقمق يهجوه ببيتين مطلع أولهما (يا أم سلمٍ هداك الله زورينا).

كان يمكن المؤلف - وفق ما أخذه على نفسه - أن يُمسِك عن ذكر البيتين لما فيهما من قولٍ يخرج عن الذوق السليم، ويبتعد عن الحياء والألفاظ المأنوسة التي رمى إليها المؤلف، لكنه لم يفعل ذلك، كما أورد أسماءً وصفاتٍ وأفعالاً تتنافى مع الحياء الذي قيّد به نفسه في مقدمة كتابه.

في مقدمة الكتاب - أيضاً - وتحت العنوان نفسه "عملي في هذا الكتاب"، يقول عبد. أ. علي مهنا: "وضعت عناوين لهذه الطرائف والنوادر، واجتهدت فيها، بحيث لا يستطيع القارئ فهم الطرفة أو النادرة من خلال العنوان، بل تركت له مجالاً للاستمتاع بلذة القراءة والعيش معها والوصول بشغف إلى نهايتها".

هنا نلاحظ أمراً غير مستساغ؛ فإن المؤلف عمد إلى انتقاء عناوين ملغزة، بل وفيها عناوين طويلة مهلهلة رديئة السبك، ولعل ذلك عمله في هذا الكتاب؛ فانظر مثلاً إلى هذه العناوين (أول عربي حرم الخمر في الجاهلية، حج معاوية فقط من أجل أبي دهبل، والد جرير يضاهي أشعب في طمعه، رشاه ليسكت ويكف عن الهجاء، ماذا يفعل الحجاج عندما يغني ابن سريج، كانت جارية حسناء فأصبحت كلبة شرسة، يومه كيوم امرئ القيس في دارة جلجل، مباراة في الكرم بين والد الفرزدق وسحيم بن وثيل)!

ويمكن تلخيص عمل علي مهنا في هذا الكتاب ضمن انتقاء بعض الطرائف من الأغاني، وهذا عمل لا يتطلب جهداً جهيداً، وإنه لفي مستطاع كل أحد، ثم اختصار السند وتجريد المتن من الإسهاب، وهذا ليس بالعمل الشاق كذلك، ثم لا شيء أكثر من ذلك يمكن أن يحسب لكتاب الطرائف على الإطلاق؛ فإن اختصار الكتاب وتجريده ليس جديداً، بل أول من اختصر كتاب الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني نفسه، وسيأتي ذكر ذلك لاحقاً.

نظرة سريعة على هوامش الكتاب، تنمّ عن جمع المادة على عجالة؛ فلم نجد المؤلف يعرج إلى مصادر أخرى غير الأغاني، كأن يحيل القارئ إلى دواوين الشعراء الأصلية، أو يعرف - إلا على استحياء - بالأعلام أو الأماكن أو الآثار، بل كل ما عنده هو أن يحيل لبعض أجزاء كتاب الأغاني نفسه، وعلى رأسها الأجزاء (10، 19، 21) ما نعبّر عنه بالعامية بقولنا: "من دقنه وافتل له".

الشيء الآخر في "هرجلة" الطرائف أنها بدأت بالحديث عن أشعب كعنوان، ومن تحته مجموعة قصص أو طرائف لأشعب بن جبير، ومن بعده - بدءاً من صفحة 30 - يظهر أبو دلامة، ما يوحي بأن الكتاب سيسير على نمط الطرائف المتعلقة بالأعلام، شأنه في ذلك شأن محمد إبراهيم سليم في كتابه "أذكياء العرب"، لكنه يجر عليك أخبار هارون الرشيد، ثم يقفز عائداً إلى الجاهليين ويسرد نبأ المتجردة مع النابغة والمنخل اليشكري، ومن المتجردة إلى سجاح التميمية التي ادعت النبوة بعد وفاة المصطفى!

يتحدث عن الفرزدق، ثم عمر بن أبي ربيعة، ومنه إلى يزيد بن عبد الملك ليعود إلى ابن أبي ربيعة، ثم ابن سريج ونصيب وجرير والأحوص، ليرتد إلى الجاهلية ويقصّ خبر المرقش الأصغر المتوفى سنة 50 قبل الهجرة، ثم يوغل في الجاهلية ليحدثنا عن وصف جارية أهداها المنذر الأكبر إلى كسرى أنوشروان، وذلك وفق منهج "دوخيني يا لمونة"!

نبّه الشراح والمحققون على خبر سكينة بنت الحسين، ولهم في ذلك سبب وجيه، إذ إن الأصفهاني ذكر خبر جلوس سكينة وسماعها الأغاني ونقدها للشعراء، لم يكتفِ بذلك، وإنما أعاد الخبر ذاته غير مرة، ما شكك المحققين في نية الأصفهاني من هذا الخبر على وجه التحديد، بينما طار به آخرون على رأسهم طه حسين. وفي الطرائف، نقل مهنا الخبر دون تنويه أو تنبيه لما ذكره المحققون. كل هذا الشطط أجبرني على الرجوع إلى قصة طباعة الأغاني وأبرز من اختصر الكتاب وجرَّده، فضلاً عن انتعاش سوق الأكل باسم هذا الكتاب، ووجدتني أعود إلى مصادر تؤكد صدق هذه الحقيقة المرة.

طباعة كتاب الأغاني
أول طبعات الكتاب جاءت باللغة اللاتينية على يد المستشرق الألماني جوهان كوزغارتن سنة 1862، وهو الذي حقق كتاب "تاريخ الطبري" بين عامي 1831-1853، والطبعة الثانية طبعة بولاق الأميرية في 20 جزءاً صدرت عام 1868، وفيها سهر على إخراج الكتاب مصححون مهرة لم ينصفهم التاريخ. أضاف المستشرق الأميركي رودولف برونو الجزء الحادي والعشرين سنة 1888، ثم تبين لاحقاً أنها زيادات وجدها برونو في نسخ مخطوطة بمكتبات برلين وغيرها، أما الفراغ في الجزء الرابع عشر الذي أشار إليه ياقوت الحموي، فقد اهتم به المستشرق الألماني يوليون فيلهاوزن سنة 1896. أما مطبعة التقدم، فنشرت الكتاب سنة 1905، ومن بعدها توالت الطبعات.

ألف محمد عبد الجواد الأصمعي (المصحح بدار الكتب المصرية سنة 1916) كتاب "أبو الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني"، وفيه نشر الأصمعي ما جمعه من تعليقات الشيخ محمد محمود الشنقيطي على نسخته من طبعة بولاق تحت عنوان "تصحيح كتاب الأغاني" سنة 1916. أما أول طبعة محققة تحقيقاً علمياً، فحملت أختام دار الكتب المصرية، وذلك عام 1927، وببلوغ عام 1961 استوفت الدار 16 جزءاً من الكتاب. أما الفهارس فاكتملت لاحقاً، لكن شابها النقصان والزلل.

صدر 16 جزءاً من كتاب الأغاني، ووعدت دار الكتب المصرية بإصدار باقي الأجزاء لاحقاً، لكن ذلك لم يُنفذ وجرت تصفية القسم الأدبي بالدار سنة 1963، ما استحال معه إكمال تلك السلسلة.

ظهرت بعد ذلك طبعات شعبية أو تجارية، منها طبعة إبراهيم الإبياري (1969 – 1979) في 31 مجلداً مع الفهارس، ومثلها طبعة دار الكتب العلمية ببيروت سنة 1986 (وهي الطبعة التي شارك في إعدادها عبد. أ. علي مهنا - مؤلف الطرائف - مع سمير جابر)، وطبعة دار جمال البيروتية بأجزائها الأربعة، وكلها عالة على طبعة دار الكتب المصرية، ناهيك بطبعة التوجه اللبناني 1980 المنقولة عن طبعة بولاق، وهي في مجملها طبعات تجارية لم تقدم شيئاً يستحق الذكر.

مع بداية عام 1970، كلفت الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر - وقد حلت محل القسم الأدبي لدار الكتب المصرية - عدداً من الأساتذة تحقيق الكتاب وإصدار بقية أجزائه لاستكمال الأجزاء الباقية، وصولاً إلى 24 جزءاً، هي مجمل أجزاء أغاني الأصفهاني. ذكرت الهيئة أن علي محمد البجاوي قد نهض بمهمة التحقيق، تحت إشراف محمد أبو الفضل إبراهيم، لصالح لجنة نشر كتاب الأغاني.

بعد التدقيق والمقابلة بين النسخة الجديدة ونسخة دار الكتب المصرية المطبوعة سنة 1927، تبين أن البجاوي لم يحقق، وأبا الفضل لم يشرف، ولجنة نشر كتاب الأغاني ليست لجنة، وأن الأمر برمته لا يخرج عن حيّز البروباغندا! ويبدو أن الأصفهاني أصيب بخذلان لا نظير له عند سماعه الخبر؛ فالرجل لم يظفر بأكثر من ألف دينار أتحفه بها سيف الدولة الحمداني، وألف أخرى جاءته من الأندلس نظير تأليف الكتاب، أما غيره فقد أصابوا ثراءً وسمعة فاقت ثراء الأصفهاني، وإن لم يبلغوا عُشر معشار شهرته.

بحلول عام 1974، صدر الجزء الرابع والعشرون، مع وعدٍ لم ينجز بإصدار فهارس كاملة لهذه الطبعة التي عرفت بطبعة دار الكتب، ولم تضف الطبعة الجديدة شيئاً ذا قيمة أو أهمية لطبعة دار الكتب المصرية؛ المتن والحاشية والضبط والمنهج والإخراج كله واحد، على الرغم من أن المدة الزمنية بين الطبعتين 43 سنة، لكن لجنة نشر كتاب الأغاني المزعومة لم تضف شيئاً، بل إنها صدّرت الكتاب بالمقدمة نفسها الواردة بطبعة دار الكتب المصرية!

لم تتجشم لجنة النشر الجديدة عناء تصحيح الأخطاء الواردة في طبعة دار الكتب المصرية، فذكرت أن من مختصرات الأغاني (مخطوط) تجريد الأغاني، على الرغم من أنه طُبع، وكان يجدر بهم أن يشيروا إلى ذلك. الأمر نفسه ينطبق على كتاب ابن منظور "مختار الأغاني في الأخبار والتهاني"، إذ طُبع الكتاب سنة 1970.

وتستمر المهزلة؛ ففي عام 2002، ظهرت طبعة دار صادر بتحقيق الدكتور إحسان عباس، وأخيه بكر عباس والدكتور إبراهيم السعافين، لكن عباس يصدمك بسؤاله في مقدمة التحقيق: "هل نحن في حاجة إلى طبعة جديدة من كتاب الأغاني؟" ثم في سياق رده على سؤاله، يتبين لك أن هذا التحقيق ظهر للنور لا لشيء إلا الوفاء والتحية لدار النشر، التي تمنى صاحبها أنطوان صادر أن يقدم هذا الكتاب منذ أمد، لكنه رحل قبل أن يتحقق له ما أراد!

بعض الملاحظات تتصل بحواشي الكتاب، فلم تجرِ على سنة واحدة وشابها اضطراب ملحوظ، لم يرجع مثلاً إلى دواوين الشعراء الذين تعرض لهم، بل نقل من كتاب الأغاني نقلاً بارداً باهتاً، وكان الأجدر أن ينظر في الدواوين، وإلا فإنها بضاعة كاسدة أن تنقل من الأغاني دون أن تضع بصمتك الخاصة، ولو في الحواشي! جاءت الطبعة الأخيرة تحية لدار صادر، وبراً بروح مؤسسها، وإن لم نجد فيها ما يسوغ إصدارها!

اختصار كتاب الأغاني

المدهش أن أول من اختصر الأغاني أبو الفرج الأصفهاني نفسه، وذلك في كتاب "مجرد الأغاني"، لكنه مفقود لم يصلنا، ومن بعده يأتي تجريد ابن واصل الحموي (ت 697)، ثم ابن منظور (ت 711هـ) - صاحب لسان العرب، وكان مولعاً باختصار المطولات - وقد وضع كتاباً أسماه "مختار الأغاني في الأخبار والتهاني". اختصر الأغاني كذلك ابن المغربي (ت 418هـ)، والمسبحي (ت 420هـ)، وفي العصر الحديث اختصره الأب أنطوان صالحاني، والشيخ محمد الخضري - المفتش بوزارة المعارف - تحت عنوان "مهذب الأغاني" سنة 1925 في القاهرة.

سلسلة "قطوف الأغاني" التي أشرف عليها كرم البستاني، سنة 1950 من بيروت، اختار خليل الهنداوي "المنتخب من الأغاني"، سنة 1957 وصدر من بيروت، أما كتاب "أغاني الأغاني" فللخوري يوسف عون، وقد صحح شرح الحواشي العلامة عبد الله العلايلي، وصدر عام 1975 في بيروت. جاءت اختيارات من كتاب الأغاني لإحسان النص، عن مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1982.

لم يقف اختصار كتاب الأغاني على المشرق العربي، بل إن الأندلسيين اعتنوا بالكتاب، ووصلهم قبل أن يذيع أمره في دار السلام - بغداد - ومنها كتاب "مختصر الأغاني" المنسوب إلى أبي الربيع سليمان الموحدي (ت 604هـ)، وقد كان الأغاني من ضمن مروياته التي عاد بها من الشرق، - وقيل إن كاتب الأمير الربيع سليمان هو من أدى المهمة لسيده! - وكتاب "إدراك الأماني من كتاب الأغاني" للأديب السلوي عبد القادر بن عبد الرحمن الأندلسي (ت 1180هـ)، وأهداه إلى السلطان العلوي محمد بن عبد الله، الذي كان مولعاً بالأغاني أشد الولع.

بذل صاحب "مختصر الأغاني" جهداً كبيراً، واعتنى عناية تفوق عناية صاحب الطرائف بسنوات ضوئية، واعتمد الضبط المنهجي وحذف الأسانيد الطويلة، وشرح غريب الكلمات والأمثال، وعرف بالأعلام الواردة في الكتاب، والأماكن والقبائل، وشرح الشعر وتحقق من الدواوين الأصلية للشعراء، ووثق النصوص واهتم بتخريج الآيات القرآنية الواردة بين دفتي سفر الأغاني، وكان يجدر بصاحب الطرائف الإفادة من مختصرات الكتاب القديمة وتجريداته، لكنه تساهل ولم يقدم شيئاً مذكوراً.

ولأن الحديث ذو شجون، فإن من بين الكتب الماتعة التي استقت مادتها من كتاب الأغاني، كتاب "شخصيات حية من كتاب الأغاني"، للدكتور محمد المنسي قنديل، نشر المادة متسلسلة في مجلة الدوحة بدءاً من عام 1977، وحتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ثم ضمّنها في كتاب نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1990 بالعنوان نفسه.

لم نتعرض لشخصية صاحب الأغاني، ولا حياته وسبب تأليف الكتاب، وشهرته من بين 36 كتاباً هي مجمل أعماله، ولم نتطرق إلى الاختلاف في مكان نشأته وسبب تسميته بالأصفهاني/الأصبهاني، ولا تاريخ وفاته المختلف فيه، وقد خصصنا مساحة مستقلة للحديث عن هذا الموضوع، وللحديث صلة.