الهيبيز والمثقف العربي الأناني

06 اغسطس 2018
+ الخط -
عشتُ يوماً عند السيدة آنا فروست؛ أم لثلاثة من الأبناء ( صبي وابنتان)، واحدة منهما في عمري، وكلبٍ وديع، مع من لا يخافه، شرسٍ في الحراسة. تعاملت معي آنا بغريزة الأمومة، تخفف طعم الغربة.

المنزل ينتصب منفرداً على تلة تحيطها غابة، في "طريق ألبورغ القديم"، ولم يعد يُستخدم. في فترة الثلوج، وجدنا حلاً: هذه دراجة هوائية لتستخدمها في الصباح الباكر للوصول إلى الحافلة، قالت السيدة فروست وهي تكرر "تقفل الدراجة وتتركها عند الموقف.. لا تنسَ".. فغير المقفلة سيظن الناس أنها مسروقة، وبالتالي يسلمونها للمخفر بحثاً عن صاحبها..

4 كم ذهاباً.. ومثلها إياباً.. كثيراً ما تكاسلت، فمشيت الطريق، مورطاً آنا بجلبها في سيارتها بعد العمل.. أنظر حولي فلا أرى سوى بيوت متناثرة في ريف بعيد عن المدن.. أقرب "مدينة" وهي في الواقع أشبه ببلدة؛ إذ إن لسان الدنماركيين في الريف يقول: هل نذهب إلى المدينة؟ ولو كان الأمر عن بلدة.. في البلدة حانة ودار سينما وبنك ودكان، يشبه دكاكيننا العربية أيامها، فالمتاجر الكبيرة لم تكن انتشرت بعد في القرى.


في نهاية الأسبوع وجدتني أسير ليلاً، عائداً من "المدينة"، في طريق الغابات الموحش، بعكس السير، كما هو نظام القرى أو الريف، ليراك السائق بشكل أفضل ولا يدهسك، ولا بد من قطعة فوسفورية، تتدلى أو تُثبَّت، لتزيد من الرؤية. توقفت بجانبي سيارة فولكسفاكسن صالون، تتسع ربما لجميع من أعرفهم في القرية، وسميت "رو برود" لأنها على شكل رغيف خبز أسمر، أو ما يسمى الخبز الألماني، كما عرفت بعد عقود في رام الله.

صخب وهواء دافئ حين أُنزِل الشباك.. "ماذا تفعل هنا؟".. 4 ركاب من الشباب والشابات.. لم أكمل كلامي لأجد نفسي معهم ينعطفون عائدين بي إلى طريق منزل آنا فروست.. في اليوم التالي، كما اتفقنا، عند الثانية عشرة انتظروني على المدخل.. ابتسمت وهي تقول: انتبه من الهيبيز.

لم أدرك أن ثمة أكبر معسكر هيبيز، في البلدة على بعد نحو 2 كم من هذه التلة الصامتة.. خيم وبيوت متواضعة جداً ونيران وبشر من كل الأعمار والأصناف.. وكثير من الحشيشة.

أخذني الهيبيز، كلما سمحت الظروف، متجولاً معهم إلى مسافات أبعد.. وصلت يوماً إلى مدينة آرهوس التي أُغرمت بها مذ يومها، وفيها سأكمل دراستي الجامعية وأعيش لثلاثة عقود.

تعرفت إلى عربي من الكتاب الذي يقرأ، تلهفت مندفعاً.. وبعد تعارف، وأنه يقطن قريباً جداً، بانتظار "الجماعة"، إذ لم أدرِ لم قالوا سنلتقي عند النهر، رجوته أن يعيرني أي شيء بالعربية.. واعداً إياه بإرساله بالبريد.. صُدمت بجواب استعلائي غريب جداً.. يفوق بكثير سعر الكتاب بين يديه.. والبقية من المعيب ذكرها هنا.

كنت حزيناً بالفعل.. وبعد إلحاح في السيارة أخبرتهم الحكاية.. ضحكوا كثيراً.. توقفوا فجأة في موقف لم يكن بعيداً عن المكان.. كان مورتن، الشاب الذي يقود الحافلة، واسع المدارك وذكياً.. دخلنا باب مبنى مستطيل وكبير، درجات بسيطة، وإذ بي في مكتبة عامة ضخمة.. سأل الموظفة عن "كتب عربية".. وجدت نفسي أمام رفوف منها.. ابتسم وهو يشير: اختر ما تريد.. وسنعمل لك بطاقة الاستعارة فوراً.. وضعت الموظفة الكتب في كيس بلاستيكي مجاني: تفضل.. استمتع بها.

قلت له: أعدني بسرعة إلى ذلك "الكائن الأناني".... لكن، صاحبنا "المثقف" اختفى.. لم أستطع أن أفجر ما بي: أيها الأناني، كان يمكنك أن تقول: تلك مكتبة عامة تعيرك الكتب مجاناً ولشهر كامل، وتعيدها في أية مكتبة بمدينة أخرى..

لكني قلتها في الفولكسفاكن وأنا أضحك فرحاً بالكنز.. بفضل هؤلاء الهيبيز.. الذين سأصبح صديقاً لمعسكرهم طيلة عام كامل بقرب قرية "فروستروب".