هل ستنشب الحرب؟

هل ستنشب الحرب؟

11 نوفمبر 2023
+ الخط -

لا أعرفه. ليس صديقي. إنّه صديق صديقي. بل حتى صديقي قال إنّه ليس صديقه، بل صديق صديقه. أكثر من ذلك، حتى صديق صديقي قد يخبرنا أنه ليس صديقه، بل صديق صديق صديقه. لكن هذه ليست مشكلة كبيرة في نهاية المطاف. وبالتأكيد هناك مشاكل أكبر في العالم.

ظلّ يرتشف القهوة من الكأس التي رُسِمت عليها علامة إشهارية، وهو ينظر إلى الشارع بأبهة تفوق مقامه. خمّنت مباشرة بيني وبين نفسي، أنه رجلٌ مكتمل النمو، له لحية مشذبة، وهيئة محترمة، لكنه على الأرجح مضحك. لقد كّرس سنوات طويلة من حياته كي يبلغ هذه الدرجة الرفيعة من السخافة. أنا معجب حقاً بسخافته، وأعتقد أيضاً أنّي أملك نفساً شريرة أمّارة بالسوء، إذ غالباً ما أشمّ عن بعد، ككلب صيد من فصيلة أصلية، الأشخاص والمواقف والمناطق المأهولة بالهشاشة الباطنية، تلك التي تصلح أكثر من غيرها موضوعاً ملفقاً للسخرية. أنا أيضاً، شكلاً ومضموناً، صالح لأن يحوّلني كثيرون إلى موضوع سخرية جيّدة، سخرية لطيفة، لطيفة لهم بطبيعة الحال، وليس لي.

إلا أنّي أصبحت متمرّساً مع الوقت بالنظر بطريقة مائية، محايدة، لا تُوحي بأي شيء، والكلام بطريقة حذرة للغاية، تشبه الموج، بحيث يمحو كلامي بعضه بعضاً. إنّها تمارين يومية تصير مع الوقت موهبة، بحيث تستطيع قراءة أعماق الآخرين، بينما يستعصي عليهم في المقابل قراءة أعماقك، ليس لأنّك خارق، بل فقط لأنّك محترف تضليل، ونصّاب بالفطرة، بحيث تمنحهم دائماً المعلومات الخطأ، والإيحاءات الخطأ التي تتعمّد توجيه تركيزهم وتحليلاتهم الداخلية الصامتة إلى التشويش، أو إلى خلاصات لا علاقة لك بها، ولا علاقة لها بك.

الكاتب، كما عميل المخابرات، لا يمكنهما التقاعد أبداً

هكذا يجب أن تسير أمورك، أن تتصرّف كضابط استخبارات متقاعد ما زال يحتفظ داخل صندوق رأسه الكبير بأسرار كثيرة خطيرة، أسرار لا تعني له، ولحياته الشخصية الهادئة، بعد السبعين أيّ شيء، إلا أنّ عليه (رغم ذلك) كتمها ومواصلة تضليل جميع من هم حوله حتى وهو يحتضر، بحيث يمكن القول إنّ الكاتب، كما عميل المخابرات، لا يمكنهما التقاعد أبداً. في البداية، يكون هذا الأمر نوعاً من التكلّف والمجاهدة، لكنه يصير مع الوقت طبيعة متناسقة، وسلسة، تكرّر ذاتها في ذاتها دون توقف، ودون مجهود كالسهول والبراري والرياح اللطيفة المحمّلة باللقاح وليس بالصواعق، بل تصير نمطَ عيش عفوياً وأسلوبَ حياة له كفاءة الطابعة.

جلس واضعاً رجلاً على رجل، يرتشف من الكأس وينظر إلى الشارع بكبرياء مبالغ فيها، كبرياء في غير مكانها ولا زمانها. يجب عليّ هنا أن أشير إلى أنّ علامة الإشهار التي طبعت على الكأس كانت لمسحوق غسيل، وهذا ينافي أيّ نوع من الأبهة والكبرياء المحتملتَين، حتى وإن كانا في مكانهما وزمانهما. تحدّث عن نفسه فقط، وباقتضاب شديد، بينما كنّا نتحدث بقلق وعدم ثقة بالنفس، وفي المستقبل، عن الحرب التي لا شك ستنشب في العالم قريباً. ذكر بعض مناقبه وإنجازاته التي قدّرنا من تفخيمه لصوته أنّها إنجازات كبيرة بالنسبة إليه.

مرّت نملة قرب قدمي، سحبتها (قدمي وليس النملة) قليلاً لأفسح لها أن تمر. ولهذا الأمر دلالات أيضاً، فقد بدا لي أنّها (النملة وليس قدمي) تعرف طريقها حقاً، عكسنا نحن الذين لا نعرف ما معنى أن يجلس أشخاص بهذه الطريقة على كراسي مقهى كي يثرثروا، عوض أن يبحثوا كتلك النملة عن غار يختبئون داخله.

طاووس واحد بالألوان يتقدّم، مزهواً بريشه، راسماً في الفراغ الكوني مروحة ريش خلابة، غير قلق بشأن أيّة حرب على الأبواب، سواء كانت حرباً نووية، أو حرب بعوض

كان حديثه عن نفسه دقيقاً ومقتضباً للغاية كرصاصات لا تخطئ هدفها كما لو أنّه تدرب عليه طويلاً، واستعمله مراراً أمام الأهداف الوهمية، والمرايا، والناس، ووجده سحرياً وناجعاً. بينما بدا لنا أنّه لن يفيدنا بأيّ شيء في هذه الأمسية الباردة، لن يفيدنا بنتيجة قاطعة مفادها: هل ستنشب الحرب أم لا؟ بل لن يفيدنا (على الأقل) حتى بقليل من الدفء.

خمنت أنّه الوحيد الذي بإمكانه الحسم حسماً قاطعاً إن كانت الحرب ستنشب أو لا. لكنه حرمنا ذلك الحسم بقسوة شديدة، وبغنج، مفضلاً تمثيل دور الطاووس، تمثيلاً متقناً، وقد كانت قهوتي المركزة رديئة بحيث رفعت توتري، وأصابتني بالإجهاد والتشتّت الذهني، وأنا أكتب هذه الكلمات، متخيّلاً كلّ شيء بالأسود فقط، الكلمات، والبشر، والسيارات، والمباني، بينما هناك طاووس واحد بالألوان يتقدّم، مزهواً بريشه، راسماً في الفراغ الكوني مروحة ريش خلابة، غير قلق بشأن أيّة حرب على الأبواب، سواء كانت حرباً نووية، أو حرب بعوض، أو جراد، أو فيروسات، أو هجوم كائنات فضائية يأتي بغتةً ليصيب على الأرض، أو موتاً شاملاً لجميع البشر بالسأم فقط. 

بل ظلّ ذلك الطاووس يتقدّم داخل أفكاري السوداء منذ بداية المساء حتى الآن بثبات دون أن يفسد أيّ شيء مروحة ريشه الزاهية الكبيرة، ودون أن يفقد رأسه الصغير الشبيه برأس الكوبرا توازنه في أثناء الرقص، ولا أنكر أنّ ذلك قد أغاظني حقاً، وقد شعرت تجاهه ببعض الغيرة بعد أن لم تؤت السخرية أكلها، وقد تفقدت ذراعي فلم أجد عليها ريشاً، لم أجد أيّ ريش بتاتاً، حتى ريش غراب، وقد أحزنني هذا الأمر كثيراً، وأصابني بإحباطِ حملٍ زائف، فضلاً عن أنّ القهوة رديئة حقاً، ومسحوق الغسيل الذي طُبع على الكأس رديء أيضاً، والحرب، لا محالة، ستنشب.

دلالات

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.