ملف: العنصرية بين مصر و"إيجيبت" (4)

ملف: العنصرية بين مصر و"إيجيبت" (4)

30 مايو 2023
+ الخط -

حين تتحدث عن العنصرية في أيّ دولة بالعالم، بالتأكيد ستقصد تلك التي ضد اللاجئين، والوافدين، والعمالة، والمهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا، أو الهاربين إلى أميركا من على الأسلاك العازلة مع المكسيك.. لكن في مصر، بعيدًا عن المكسيك وأميركا واضطهاد سود البشرة، فإنّ العنصرية قائمة على التمييز الطبقيّ، لا العرقيّ، ولا الدينيّ، ولا الجنسيّ، في المقام الأول.

الكثيرون يقطنون القاهرة، لكن القاهرة بحدّ ذاتها، وما حولها، مختلفة إلى أقصى حد. فحين يُجيبك أحدهم "أسكن القاهرة"، لن تأخذ الإجابة بعين الاعتبار، حتى يجيبك عن السؤال الآتي: "أي قاهرة فيهم؟". حينها، فقط ستحدّد المستوى الذي تحدّثه من خلاله، وبناءً عليه سيكون تصرفك، بدءًا من أداة النداء وما بعدها؛ سيادتك، أم يا فندم، أم حضرتك، أم يا باشا، أم ياسطى، أم يا زميلي، أم يا خويا؟

في بلدان العالم الأخرى، ليست الغنية بالضرورة ولا العالم الأول، ستجد بين كلّ حيّين حديقة، وبين كلّ مربعين سكنيين منطقة ألعاب مجانية للأطفال، وبين كلّ حارتين رصيفًا تقف فيه الأشجار، أما في مصر، فهذه الضروريات، العادية، تتوّفر حسب المنطقة التي تسكنها، فإن كنت من أبناء الـ90% من الشعب، فلن ترى حديقة في حياتك، إلا وأنت ذاهب إلى مدينة نصر أو في الأعياد لتصادفك "الأزهر بارك"، وتقطع تذكرة إن أردت الدخول، وربما لن تقابلك منطقة ألعاب مجانية في حياتك، إلا إذا أردت قطع المشوار إلى "دريم لاند"، لتقطع تذكرة تساوي 10% من راتبك، لتجرّب بعض المغامرة، أو عليك أن تتخلّص من هذا كله وتكون من أصحاب الملايين فتسكن في الرحاب أو مدينتي، لتستطيع أن ترى شيئًا أخضر على مدّ بصرك، قبل أن ترى الأسفلت وتشمّ عوادم أتوبيسات النقل العام.

إن كنت من أبناء الـ90% من الشعب، فلن ترى حديقة في حياتك، إلا وأنت ذاهب إلى مدينة نصر أو في الأعياد لتصادفك "الأزهر بارك"

في بلدان العالم الأخرى، لن تكلفك رؤية البحر غير عينيك؛ لن تفعل شيئًا إلا أن تذهب إلى مدينة ساحلية، فتستقبلك رائحة اليود قبل وصولك، وتستطيع وأنت في الباص السياحي أن تطلق عينك لتغرق في الموج الأزرق بسهولة، ثم تجلس على الكورنيش في المساء تشاهد تلاطم الماء، وأنت تأكل الترمس والسوداني، ثم تنزل البحر في صباح اليوم التالي بمايوه، وربما 10 جنيهات في أغلب الأحوال، أو أكثر قليلًا. لكن في مصر، فولادتك في مدينة ساحلية، وأن تكون الإسكندرية مثلًا محل إقامتك وعملك وحياتك وحياة أجدادك، فلو "اتشقلبت" في شرفة بيتك، لن تعود قادرًا على رؤية البحر، بسبب جدار عازل، باطنه الرحمة وظاهره من قبَله العذاب، ولن تعبر من هنا إلى هناك إلا بمقدار ما تدفعه، من نظير خدمة في الكافيهات التي أجرّتها الحكومة للمستثمرين، وقد كانت من قبل رمالًا صفراء على الشاطئ، أو ما تدفعه بشكل أكثر قليلًا، من ملايين نظير شاليه لك أنت وأسرتك، أو عشرات الآلاف لقضاء بضع ليالٍ في فندق بأحد سواحل مصر الكثيرة، الممنوعة "بالطريقة".

"بعض" سكان هذه المناطق التي تعبّر عن "مصرهم" لا "مصرنا"، سيعتبرونك دخيلًا على مجتمعهم؛ صفحة مدينة الرحاب تحمل كلّ يوم سيلًا من الشكاوى، تطالب بوضع كود أمنيّ أكبر يمنع عمال الدليفري من التسكّع والتمتع بالحديقة لأنهم يلوّثونها، بعض السكان الآخرين إن جاوزوا الكود الأمنيّ والطبقيّ بملايينهم وجلسوا في الحديقة يشوون الرنجة ويأكلون البصل، أو إن صلّوا في الخلاء حين يؤذّن عليهم العصر، فإنّ "مدام إنچي" المقيمة في المجاورة الرابعة ستشكوهم على الملأ، لأنهم يشوّهون المنظر الحضاريّ في المدينة الفاضلة، وهل دفعوا تلك الملايين ليروا هذه الأشكال هنا؟ هل تركناهم في قاهرتهم لنراهم في قاهرتنا؟

في البلدان الأخرى، أوروبا تحديدًا، إن كانت الشابة محجبة، وتريد دخول مطعم أو مقهى، باستثناء حوادث الكراهية أحيانًا، فإنها تستطيع الدخول ولو في أيّ مكان سياحيّ أو مطعم راقٍ، أما في مصر، ففي بعض الأماكن بعينها، لو فعلت المحجبة أيّ شيء فإنها لن تدخل بعض المطاعم والكافيهات والقرى السياحية أصلًا، ما دامت تضع "هذا الشيء" على رأسها، لأنه رداءٌ ربما يعبّر عن طبقة بعينها، عن "شعب" لا نريده في شِعبنا.

"بعض" سكان المناطق التي تعبّر عن "مصرهم" لا "مصرنا"، سيعتبرونك دخيلًا على مجتمعهم

 

ومن هذا كله، جاء الفرق بين "مصر" الاسم الذي نعرفه، يسكننا ونسكنه، وبين "إيجيبت"، المجتمع الذي ينسلخ من شعبيته ومصريته وطبيعته وعاديّته، ليدرّس أبناءه في مدارس لا تتحدث إلا الإنكليزية، مهتمًّا بالتمظهر الثقافيّ، كعرض من أعراض النقص، وعقدة الخواجة، التي تحتّم على الفارّين من الطبقات الدنيا، أن يحتقروا ماضيهم أو حاضر الآخرين، بلهجة لن يفهموها لأنهم لم يحصلوا على التعليم ذاته، ولأنّ مصرنا أقبح بكثير نسبةً لـ"إيجيبت"ـهم.

العنصرية التي قد تجدها في مصر حقًّا، بعيدًا عن النعرات الشوفينية لأبناء "كيمت" على مواقع التواصل (وهي ترجمة أخرى لمصر غير إيجيبت -بالقبطية القديمة- وتطلق على المتمسكين بالهوية الفرعونية للبلاد)، فإنها لن تكون ضد السوريين الذين يعتبرهم المصريون أصحاب بلد وأهل بيت، ولن تكون ضد الأفارقة الذين ربما يعانون من بعض الحوادث، لكن بدرجة أقل بكثير من بلاد أخرى، ولن تكون ضد الطلبة الآسيويين الوافدين الذين يدرسون في الأزهر، ولا السياح الأوروبيين الذين يملؤون مدن البلاد، وإنما ستكون طبقًا للحساب البنكيّ، ولا نقول تمييزًا على أساس طبقيّ، وإنما هي عنصرية هيكلية ومؤسسية، أوسع نطاقًا من حوادث ترجع إلى أسباب اجتماعية وطبقية في نطاقات محدّدة، وإنما صارت بمدن كاملة، تمارس قبحها على مناطق أخرى، لأنها تعتقد أنها أجمل، والحق بين هذا وذاك، أنّ الإجرام القبيح ليس ذنب أحد منهم، وإنما ذنب سلطة تقتلع الأشجار لتزرع الأسفلت، بينما تنتزع بيوت الأفقر لتبني على أنقاضها قصور الأغنى، في جمهورية "اللي يدفع أكتر"!