لست وحيداً تماماً

لست وحيداً تماماً

14 أكتوبر 2023
+ الخط -

الذين يسعون جاهدين للوصول إلى أشياء صغيرة، لا يصلون إليها عادة، لأنها تصير بعيدة جداً، هكذا فقط، دون مبررات معقولة، تبتعد جداً، ربما لأن الكون ساخر كبير. يركضون، يلهثون، يتعبون، وأخيراً لا يصلون إلى الأشياء الصغيرة. تلك الأشياء التي تلمع عادة لمعاناً اصطناعياً مشبوهاً. 

الذين لا يسعون إلى أي شيء، بفعل الملل والكسل والشعور بالضيق المزمن والبخل الشديد في تبديد الطاقة حتى من أجل التمطي، تأتي إليهم -عادة- الأشياء وحدها، الصغيرة، والكبيرة، دون أن يركضوا خلف أي شيء. لكن، بمجرد ما يحاولون الإمساك بها، القفز في اتجاهها، التقاطها كما تلتقط الفاكهة اليانعة، تهرب، تبتعد، تتحول إلى سراب، ثم تختفي بعد ذلك بشكل كامل وقطعي بحيث يفقدون حتى السراب نفسه. هذا يؤكد أكثر أن الكون ساخر أصيل. 

في النهاية عليك الجلوس فقط، والتصرف بشكل طبيعي ما أمكن، تأكل، تشرب، تذهب إلى العمل، توفر بعض المال بعد حسابات هندسية ورياضية دقيقة جداً، تتزوج، تنجب الأطفال، يكبر الأطفال، تصبح جداً، تطلق زوجتك، تعود إلى مراهقتك. 

معاشك القليل سيكفيك وحدك وزيادة، تشتري ثيابا أنيقة على مراحل وشهور حتى تكمل طقماً، معطفاً باهظاً يصل حتى الركبتين، بينما تصل ياقته حتى ذقنك، سترة صوفية كلاسيكية فاخرة من ماركة عالمية، سروالاً أنيقاً جداً، حذاء سهرات شديد اللمعان، كاشكولاً مزوقاً بمربعات صغيرة جداً لونه الأساسي رمادي، ثم قبعة سوداء دائرية الحافة وعكازاً قبضته من العاج من أجل مزيد من الشياكة الفارهة التي تليق بنهاية العمر. 

صفف شعرك الفضي جيداً بمشط صغير تخفيه دائماً داخل جيب المعطف قرب قلبك، ثم أضف إلى كل ذلك رشة واحدة من عطر حقيقي كي ينتهي الأمر كله نهاية شديدة الحسم. عطر شتائي راقٍ، بإمكانك رشه حتى في الصيف، هذا لن يغير الفصول أبداً ولن يغير من روعة الحدائق. قنينة واحدة ستكفيك عشر سنوات، في عملية حسابية لا تقبل أي هامش للخطأ، بحيث تترك آخر رشة لآخر يوم ربيعي جميل تحتضر فيه. 

تنهض باكرا كل يوم، تعد قهوتك بنفسك، تشمها بعمق، تشعل سيجارة، تدخنها دون أن تدخل الدخان إلى رئتيك، تسمع الأخبار في شاشة صغيرة وتقرأ الجرائد مركزا نظرك في صور عارضات الأزياء النحيفات

عشر سنوات من الشياكة كافية لمبادلة الكون سخريته الجميلة. 

تنهض باكراً كل يوم، تعد قهوتك بنفسك، تشمها بعمق، تشعل سيجارة، تدخنها دون أن تدخل الدخان إلى رئتيك، تسمع الأخبار في شاشة صغيرة وتقرأ الجرائد مركزاً نظرك في صور عارضات الأزياء النحيفات. تلعب في يدك بجهاز التحكم باحثاً عن قناة روتانا زمان، كما لو أنه جهاز تحكم بالكون، تسمع الأغاني القديمة الطويلة محركاً رأسك مع اللحن بطرب كبير. لا تملك هاتفاً بحيث لن يرن عليك أحد، كما أن عائلتك القديمة لا تعرف أين أنت، فقد غيرت تلك المدينة الكبيرة الصاخبة ذات صباح مشمس، بشكل مفاجئ، بسبب فقدان الذاكرة، بمدينة ساحلية صغيرة وسياحية. 

منتصف النهار بالضبط هو ساعة غدائك الرسمي. تتأنق وتخرج قاصداً ذلك المطعم الصغير الجميل المحاذي لمرسى القوارب. بعد الغداء تتمشى على طول شارع المدينة الرسمي الوحيد حتى تصل إلى مقهاك المعتاد الذي تطل واجهته الزجاجية على تمثال لحمامة من السيراميك أو بطة من الجبس أو ديك من الحجر البركاني أو حصان من متلاشيات الحديد أو ساعي بريد من البرونز أو جندي مجهول من بقايا مجنزرة محروقة تحطّ فوقه النوارس. تطلب قهوة وتدخن سيجارتك الثانية لذلك اليوم، نافخاً الدخان بأبهة في اتجاه السحاب. بإمكانك إخراج مذكرة أنيقة من جيب المعطف وقلم والتحول إلى كاتب، سيناسب ذلك عمرك ولون شعرك وأناقتك الفادحة ووحدتك الكاملة. تكتب مذكرات مثلاً، أو يوميات، أو قصصاً قصيرة، أو أشعاراً مفرطة في الرومانسية. يمكنك أيضاً العدول عن فكرة غير مسلية كثيراً كهذه والاكتفاء بمراقبة المارة، الرجال المتعبين، والنساء المجلببات الشاحبات، والأطفال الصاخبين، وخصوصاً البنات اليانعات كأزهار رصيف وسط كل ذلك الخراب. 

ينزل المساء بهدوء وسكينة فوق العالم، تنهض وتعود إلى البيت الصغير مشياً على قدميك في ما يشبه التريض اليومي الممتع والصحي في آن واحد. تدخل وتغلق الباب، تأكل السندويتش الساخن الذي أحضرته معك، طبعاً بعد أن تخلع ثيابك الفاخرة وتعلقها وتغطيها بإزار كي لا تتلطخ بأي شيء وكي لا تحتاج أبداً إلى تصبين. طقم البيجامة الحمراء أيضاً لا يقل أناقة، كما أن بعض العطر يظل عالقاً فيه بسبب احتكاكه الجبري بالثياب الرسمية. 

لست وحيداً تماماً، فأنت تربي قطة لن تكلفك سوى فتات السندويتش، أو عصفوراً مغرداً واحداً فقط يغني لك غناءً أوبرالياً خالصاً مجاناً. 

تذهب إلى الثلاجة، تخرج منها بيرة واحدة فقط من أجل السهرة، تبحث عن قناة روتانا أفلام، تجد أخيراً فيلماً مضحكاً بالأبيض والأسود. تضطجع على سريرك، تفتح البيرة وتضعها قربك على الكومودينو رفقة بعض المقرمشات. تتفرج وتقهقه وتشرب على مهل شديد. 

تنام دون أن تشعر بذلك، كطفل، كرضيع، كجنين، جهاز التحكم فوق صدرك، والقناة تذيع مزيداً من الأفلام المضحكة، والقنينة سقطت أرضاً فوق الموكيت ولم تنكسر، والكون لن يستطيع أبداً السخرية من كل هذا.

في الصباح الموالي تنهض نشيطاً، تأخذ حماماً خفيفاً، تحلق ذقنك ببطء وتركيز، تشرب قهوتك، تتأنق، ترشّ رشة عطر صغيرة، تذهب إلى المطعم، تأكل وتتأمل النوارس تحط فوق الزوارق المقلوبة والتماثيل، ثم إلى المقهى محاذراً -بقلق وجودي كبير- أن يتلطخ حذاؤك بالغبار. تشرب قهوتك وتدخن سيجارتك الثانية كنجوم السينما، تكتب أو بالأحرى تتأمل الصبايا الممشوقات، تعود أدراجك، إنه المساء، تشرب بيرتك، تشاهد فيلمك، تنام كرضيع أسكره الحليب ورائحة ثدي أمه، تشخر، وبث الأفلام المضحكة يظل مستمراً، والكون حائر في كل هذا، والأشياء الصغيرة حائرة، والأشياء الكبيرة حائرة، ورائحة عطرك تدوم أطول وأطول.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.