في بناء عقل ديني مدني (2)

في بناء عقل ديني مدني (2)

04 مايو 2021
+ الخط -

تغلب على الساحة الفكرية الراهنة ظواهر التفكك والتشرذم والمواقف الحدية التي تختصر المشهد بعقلية الفردية المتضخمة (إما أنا أو أنت)، وقد شاعت مواقف علمانية ضد إسلامية، وإسلامية ضد علمانية، وقومية ضد دينية، وقريباً من هذا أشار د. محمد العوضي إلى الذاكرة المعرفية التي تنم عن سيادة السجال بدل ما نحته من مصطلح (المدارسة) فيقول:

(منذ أن فتحت شهيتي للقراءة واقتناء الكتب كانت المساجلات والمناظرات تستهويني لما فيها من روح التحدي والمبارزة الفكرية وتحقيق المتعة من خلال الوقوف على مهارات العقل في تفنيد قول الخصم واستظهار المناظر والأدلة على أقواله..

وفي مكتبتي كتب متخصصة من جميع المناظرات قديماً وحديثاً، في موضوعات متنوعة ومن أشهرها كتاب أنور الجندي المساجلات والمعارك الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة واللغة، معركة اشترك فيها عباس العقاد ومصطفى الرافعي وطه حسين وزكي مبارك وفريد وجدي وكرد علي ومحمود شاكر وأمين الخولي وشبلي شميل وسلامة موسى وفيليب حتي ويعقوب صروف وأحمد أمين وتوفيق الحكيم ويوسف عوض.. وغيرهم.

وهناك كتب في (النقض والنقد) ومن أشرس هذه المعارك ما كتبه الرافعي ضد العقاد في كتابه (على السفود). أما أسوأ ما قرأت فكتاب المسامير ضد أبو الهدى الصيادي وآخر ما دخل مكتبتي كتاب (سوف يدري.. رحلة الطلاسم من الشك إلى اليقين) لطلال العامر، جمع فيه القصائد المعارضة والمناقضة لقصيدة الشك المشهورة (بالطلاسم) لشاعر المهجر الكبير إيليا أبوماضي المعروفة بـ (لست أدري) مع دراسة وافية من 415 صفحة بستة فصول.

ورغم قناعتي بأن المناظرات والمعارك الفكرية جزء لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية في فاعليتها المتجددة في الحياة المعرفية إلا أن النتيجة التي اخترتها أخيراً ترجيح مصطلح (المدارسة) حول موضوع البحث المختلف فيه، لأن المناظرة تجعل كل طرف مسكوناً بهاجس الانتصار وإذا كان هناك جمهور فإن أجواء تحرر العقل من هوى النفس تكون صعبة).

ولن تتحقق المدارسة دون وعي بأولى ركائز العقل الديني المدني وفي مقدمتها (الإحساس بالزمن).

إن إصلاح الإحساس بالزمن يمكن المثقف من معايشة العصر، وتأصيل رواسخ معرفية تتجاوز التحريف والنقص في فهم الحياة والدين عبر منطلقات العقل الديني المدني النظرية والمنهجية وانشغالاتها السياسية

وأعني به امتلاك الرشد الفكري والقدرة العملية على إدارة مواجهة الزمن المعيش والرعب الملاحظ بإيقاع يقظ يمنع من:

• أولاً: امتهان كرامة الإنسان ويدعم احترام قسمات الهوية ومكوناتها العقلية والدينية والأخلاقية (طالما أن تشكيل حياة الإنسان الجوانية والبرانية وهدايتها هما الهدف الأساسي فمن الواضح أن الحقائق العامة التي ينطوي عليها الدين لا يصح أن تبقى متأرجحة غير مستقرة، فلا أحد يخاطر بالعمل على أساس من مبدأ سلوكي مشكوك فيه. والحقيقة أنه بالنظر إلى الدين من حيث وظيفته، هو أكثر حاجة لأساس عقلي لمبادئه الجوهرية من حاجة المعتقدات العلمية، فقد يتجاهل العلم الميتافيزيقا العقلية، وقد تجاهلها بالفعل، أما الدين فلا يكاد يحتمل أن يتجنب البحث عن الملاءمة بين تناقضات التجربة ومسوغات البيئة التي تحيط بالإنسانية. وإلى هذا المعنى ألمع برفسور هوايتهيد بقوله: "إن عصور الإيمان هي عصور العقلانية" ولكن عقلنة الإيمان ليست تسليماً بتفوق الفلسفة على الدين، فالفلسفة بلا شك من حقها أن تصدر أحكاماً على الدين، ولكن هذا الذي تحكم عليه الفلسفة (من الدين) له طبيعة لا تخضع لحكم الفلسفة إلا بشروطه الخاصة، كما أن الفلسفة عندما تتصدى للحكم على الدين لا يمكنها أن تجعل الدين في وضع أقل قيمة من معطياتها الأخرى  والدين لا يقبل التجزئة؛ فهو ليس فكراً مجرداً ولا شعوراً مجرداً ولا فعلاً مجرداً، إنه تعبير عن الإنسان بكليته الفكرية والشعورية والسلوكية جميعاً، ومن ثم فإن الفلسفة وهي تقيم الدين ينبغي أن تسلم بموقعه المركزي، وليس لديها بديل آخر، إلا أن تعترف به کشيء محوري في عملية التركيب الفكري، وليس هناك سبب لافتراض أن الفكر والحدس متعارضان تعارضاً جوهرياً، فهما ينبثقان من أصل واحد).

ولأن الإحساس بالزمن يوجب أن نتبنى الوعي غير المدجن أو المدجل يروي لنا د.العوضي قصة ذكية تفصح عن وعي الزمن بعقلانية من خلال نموذج مصغر (ربما تعجبون إن علمتم أنني أَلقَيْت محاضرةً في ساحة الملعب الخارجية في هذا النادي (النصر) عام 1989 يوم كنت في الدراسات العليا بجامعة أم القرى وبعد أكثر من 20 عاماً أعود ثانيةً في حالة من المشاعر المختلطة بمعنى، الزمان والإنجاز والتحولات في الذات والحياة.. الرياضة، الترويح، المتعة، جزء أصيل وملازم من كينونة الإنسان، وكرة القدم بالذات جاءت لكي تعلم الناس التعاون والعمل الجماعي والفرح بالإنجاز المنسوب للكل، الرياضة تجعل الشباب يفرغون طاقاتهم بطريقة فيها من اللياقة ويتخلصون من العنف السلبي بالجهد القوي المنظم ذي الهدف الممتع..

وبينت خطورة تحول الرياضة من وسائل إلى أهداف أو أن تنحرف عن أخلاقيتها. وأحلت الحضور على دراسة عالم الاجتماع مصطفى حجازي بعنوان الدين الكروي، والمفكر المسيري حول علمنة الرياضة وفرقنا بين الانتماء والتعصب وبينت خطورة تعلق شبابنا برموز رياضية سيئة السمعة ولعبة الدعاية والإعلان في توظيف الرياضي لبضاعة كاسدة أو ضعيفة المحتوى وركزت على اللعب ثم اللاعب وأخيراً اللاعب.. فإن علم نفس الجمهور مُنذ دراساته الأولية في عام 1890 إلى عهد قريب أكد أن تسلسل القوة الرياضية المؤثرة على الجمهور تأتي كالتالي
أولاً: اللاعب، ثانياً: الحكم، ثالثاً: الإداريون، رابعاً: الإعلام، خامساً: الجمهور، لأن الجمهور خارج اللعبة يتلقى وينفعل...).

هذا المثال القريب من الواقع الشعبي يعكس عمق فهم د. العوضي لضرورة الإحساس بالزمن ويحيلنا إلى نقطة مهمة أخرى من سمات الإحساس بالزمن.

• ثانياً: التوظيف السياسي للديني والمدني، فالعقل الديني المدني يتعالى على فكرة التحويل إلى بيدق مأمور ويشير د. العوضي إلى التحالف الدنس بين مشغلي محركات الكراهية في المجتمعات حيث ترتكز على أربعة عناصر هي: (السياسيون المتمصلحون) وبعض القيادات الدينية المؤثرة في المجتمع إضافةً إلى مبالغات الفضائيات التي تؤزم بين جميع الأطراف في المجتمع، فضلاً عن التدخلات الخارجية التي ترمي إلى تحقيق مصالحها.

• ثالثاً: ألا يتمتع باستقلالية بعيدة عن نهر الزمن الجارف حيث لم يبق إنسان في مكانه، بل اغترب عن هويته فكان علمانياً أو عن مكانه فكان سلفياً، وبين تزمت وتفلت عاش ربعنا المثقف في وهم قبضة من الأفكار الصغيرة التي تلهو بها ذاكرته. (إن قليلاً من العمل يغني عن كثير من الفلسفة والتنظير..

لكنّ للعوضي رأياً آخر (تكونت لديّ رغبة بطرح استراتيجية «إغاثة فكرية» والتي تطيب لي تسميتها بناء باستراتيجية "إسلام مشاعر لا شعائر" التي تقوم على طرح الإسلام كسلوك قبل طرحه كأحكام، والتركيز على الخطاب الإنساني دون الإسلامي، حتى نتحصل من خلالها - أي الاستراتيجية- على الثقة التي نستطيع النفاذ منها إلى الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل الذي يخدم كل أبناء المجتمع بشتى انتماءاتهم)..

ولأن غاية العقل الديني المدني هي تحضر الواقع وجمعه بين روح مؤمنة وفكرة غير متحجرة، فلا يقبل العقل الديني المدني الخضوع للقوة العسكرية والقدرة المالية كما لا يرضخ للتضليل الديني أو العلماني.

إن إصلاح الإحساس بالزمن يمكن المثقف من معايشة العصر، وتأصيل رواسخ معرفية تتجاوز التحريف والنقص في فهم الحياة والدين عبر منطلقات العقل الديني المدني النظرية والمنهجية وانشغالاتها السياسية، كما أن امتلاك العقل الديني المدني برواسخه يحول دون ظهور مرجعيات تسلك سبيل الانتقائية المزاجية، أو البراغماتية المبتذلة، أو التدليس بين القديم والجديد، أو تدعي إنجاز مزاوجة بين الحداثة والأصالة؛ لأن ذلك ليس شيئاً آخر غير إعادة تعميق التقليد وهذا ما يقودنا لركيزة مهمة في بناء الإحساس بالزمن وهي الاستقلال فلا يقر بالتطويع ولا يقبل أن يضارع المشاهد الراكدة أو الوافدة ويقف على مبنى ومبنى التدقيق بعيداً عن التعميمات الشمولية الفضفاضة للمثقف ينبه العقل الديني المدني إلى وجود المثقف غير المحنط أو المرتهن فنراه يبين أننا نعيش لحظة تاريخية سياسية صراعية حرجة معقدة استطاعت اتجاهات وقوى خارجية وداخلية أن تربك المجتمعات وتمزقها وتؤصل الفرقة والاستقطاب الطائفي والمذهبي بشكل غير مسبوق..

وإذا خرج من يتكلم بالحكمة والمنطق فإنه سرعان ما يستبعد أو يصد عنه الناس، لأنه يكون مخذولاً أو متساهلًا! وسألني أحدهم:

أين النخبة؟ أين المفكرون؟

قلت: المفكرون في كثير من الظروف التي يغلب فيها الخطاب العاطفي الجماهيري يتحولون إلى عوام!! 

لأنه كي تجد جمهوراً يستمع إليك يجب أن تستسلم لشعار (نافق أو وافق وإلا ففارق)، فماذا تختار وهل من بديل عن هذه الثلاث المهلكات؟ إن النحر للآخر والانتحار الذاتي ثمرة طبيعية لانتحار عقلي وضيق أفق؛ وهو في مستوى التفكير يبدأ بالكفر بالآخر مروراً بالكفر بكل شيء؛ وانتهاء بالكفر بالنفس وتحطيمها ونحرها.. قال بعض الحكماء: ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة.

لا بد من قلب وفكر وعناية عاشقة للقيم لا تعرف فتور الهمم، (إن الحوار والنصح هما الوسيلة المثلى لتغيير المفاهيم والتأثير الإيجابي في الآخرين، ولكن وألف (لكن) أين ومتى وكيف ومن وبأي طريقة وأسلوب مع مراعاة الشريحة المستهدفة والهدف الكلي والأولويات وعشرات وعشرات المتطلبات والعناصر التي تحقق الموضوعية النسبية وترجح المصلحة على المفسدة؟).

تعلو الثقافة بفكر وقلب ونظافة قبل بلاغة حرف وضمير في متاهة.

العقل المدني الديني يعني تحقيق الماثل في الكينونة الإنسانية، أعني الجانب العقلي والوجداني والإحساس بالزمن يعني عدم القبول بالوجدانيات المغرقة أو الفقه الجامد أو التطرف العلماني أما الفكر وجولاته فهو جانب مفقود يحث ويضغط على المسلم من أجل أن يقف على صخرة الوفاق مع الهوية وكشف العصر دون مخاصمة أو تغييب بعد أن غيب التسلط السياسي والقصور المعرفي عقلية الإحساس بالزمن وصدق شكسبير في مسرحيته عندما قال هاملت: ما من إثم إلا وسيبدو، مهما احتجب، ولو غمرته الدنيا بأجمعها عن أعين الناس.

إنني أزجي في مقالتي هذه الرواسخ زهرات فكر تظل مبرعمة فيما ينتظر صاحبها أن تتفتح عن فكر مفكر لا تكفيري، إن الإسلام المثقل بالصور النمطية مع أو ضد يتطلب مثقفاً إسعافياً يكون مشابهاً في وعيه بالزمن لما قيل في أقصوصة لها عبرة: دخل رجل على شيخ فوجده يشرح لتلاميذه صحيح البخاري..

فقال الرجل للشيخ: الناس في الغرب وصلوا إلى القمر وأنت تشرح صحيح البخاري..

فقال الشيخ: وما العجب في هذا؟

مخلوق وصل إلى مخلوق ونحن نريد أن نصل إلى الخالق..

لكن أتعلم أنك المفلس الوحيد بيننا..

فلا أنت وصلت إلى القمر معهم، ولا أنت درست البخاري معنا.. فما أكثر هؤلاء؟!

لا يسيرون مع الركب، ولا يسلم الركب منهم..

العقل الديني المدني إما إعمار الداخل وإما إعمار الخارج ولا مكان له في الفتن والدم.