في أن يحبّ المرء أعداءه

في أن يحبّ المرء أعداءه

28 يونيو 2023
+ الخط -

لن نذهب إلى البيت بشيء مفيد إذا واصلنا النقاش في ماهية الحب: هل هو موجود أم غير موجود؟ أو إذا واصلنا الموازنة بين طرحين، الأول يقول إن ما نسميه بذلك الاسم، ليس إلا مجرّد غرائز تُغلّف بمقولات أخلاقوية وإنسانوية. والثاني ذاك الذي ينظر إليه بوصفه شعورا إنسانيا محضا، منفلت من أيّ قبضة إيروسية منحطّة.

لكن دعونا "نؤدّب أنفسنا على أن تضحي بكلّ رغائبها من أجل الحقيقة" كما يحلو للفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، أن يصرخ، ولنفكر في الأمر في ضوء مطلبٍ جديد، وليكن السؤال التالي مفتتح هذا الطريق: أيّ حبّ جدير بأن نفخر به بحيث يكون أمارة على تأديبنا لأنفسنا وبُرائها من أيّ مشاعر مسمومة ومُضمرة العداء؟

هذا السؤال يحيلنا على التفكير في حبّ غير انفعالي، وغير رغائبي، وما بعد أخلاقوي. أي أنه يحمل شحنة مقاومة للنفس وسياقاتها ضد نفسها، ليس خروجاً بها إلى رغبتها، ولكن للقائها مع ما تعتبره خارجا لها أو نقيضا لماهيتها، وما لا يتواءم مع نزوعاتها، هذا التفكير في حبّ مضاد، أو أن نحبّ أعداءنا، هو الجدير بالتفكير على نحو فلسفي وإتيقي، بحيث يمكن أن يقود إلى سياسة نسيان نشطة تخلّص الفضاء الخاص والعام من ذاكرة الأعداء والشتائم والإهانات. 

بأيّ معنى نحبّ أعداءنا إذن؟ وكيف يشكل هذا الضرب الطريف من المشاعر المضادة للمشاعر مكابدة ومغامرة إيروسية وإيتيقة جديرة بالمعاناة؟

 لنفكر في حبّ يجمعنا بأعدائنا بواسطة النسيان النشيط، فهذا الضرب من الحب هو الجدير بأن نقهر ذاتنا في سبيله، مكابدة ومعاناة

لم أجد لهذا النوع من الشطحات التي باغتتني حاضنة نظرية تُضفي عليها المعنى المناسب للطرح، إلا على أرض فلسفة نيتشه، فإذا أنصتنا إليه في "جنيالوجيا الأخلاق" وهو يقول "ألا يستطيع أحد أن يأخذ أعداءه وهزائمه، وحتى مساوئه مأخذ الجد لمدة طويلة- تلكم أمارة على الطبائع العارمة والتامة، تلك التي تفيض منها قوة تشكيلية، متجدّدة، شافية، وحتى باعثة للنسيان".

لنقل في ضرب من التأويل غير البريء، إنّ الحب الجدير بالمحبة هو أن "يحب المرء أعداءه" ولكن كيف؟ هنا يقترح نيتشه تقنية "النسيان" ويورد مثال "ميرابو" ذلك الشخص الذي لم تكن له ذاكرة الشتائم والإهانات التي يقترفها الناس في حقه، والذي لهذا السبب عينه لا يمكن أن يصفح لأنه قد نسي، إنّ إنسانا هذه شاكلته هو ما من شأنه أن ينفض عنه هموماً وإعاقات مشاعرية كتلك التي لدى غيره من الناس. 

هنا نكون أمام "حب جنيالوجي" يعيد بناء معناه ليس على أخلاق العادات والتقاليد، التي حدّدت أحباءك وأعداءك قبل ولادتك، ورسمت لك قائمة ممن هم أهل لحميتك الجاهلية من كره وحقد، وممن هم أحق بحميتك الإنسانية من شفقة ولطف ووفاء وصداقة. كما أننا أمام استفسار جذري لمعنى الحب أو "حبّ حر" بلا رجعة، إلى درجة يستضيف فيها الإنسان عدوّه في نطاق ذاكرة مستقبل لا ترى في الثأر والانتقام فضيلة، وإنما دلالة على حبّ كسول لا يستطيع أن يرى أبعد من رغباته.

أيها الأصدقاء/الأعداء. لنفكر في حبّ يجمعنا بأعدائنا بواسطة النسيان النشط، فهذا الضرب من الحب هو الجدير بأن نقهر ذاتنا في سبيله، مكابدة ومعاناة.

فريد أمدى
فريد أمدى
أستاذ مادة الفلسفة وطالب باحث في سلك الدكتوراه في جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، حول "تحولات المجتمع المغربي المعاصر".