عن التشكيلي فتحي غبن وموته المضاعف

عن التشكيلي فتحي غبن وموته المضاعف

02 مارس 2024
+ الخط -

(١)
فتحي غبن (1946-2024)، فنان تشكيلي فلسطيني من غزّة، عمل على مدى عقودٍ على سردِ الكثير من حكايات فلسطين، الأرض والناس، عبر لوحاته ورسوماته، انطلاقًا من تجربته كمهجَّر ولاجئ، وأيضًا كمُعاين لواقع الفلسطينيين عبر عقود، ولمعايشته الكثير من الأحداث والحروب في غزة.  
 جاء خبر وفاته منذ أيام، وقد تناولته وسائل الإعلام ونعته وزارة الثقافة الفلسطينية بتفاصيل مؤلمة، جعلتني أشعر بأنه قُتل مرّتين. 

المرّة الأولى بسبب غياب الأدوية التي تمنعها إسرائيل من الوصول إلى الفلسطينيين، وهو سلاح إبادة جماعية كما القصف والتجويع، وأيضًا بسبب الغازات المحرّمة دوليًا التي أطلقها العدوان طوال أشهر، وهي الغازات التي فاقمت أزمته الصحية، وذهبت برئته حدّ انقطاع تنفسه وفقد حياته. ورغم كلّ النداءات بالعمل على إنقاذه، منعت إسرائيل خروجه من قطاع غزّة، رغم استعداد قطر للتكفّل برعايته الطبية. وهو يشترك في هذا النوع من المعاناة مع كلّ المرضى الغزاويين.
وأما المرّة الثانية، فكانت حين قصفت إسرائيل بيته في شمال غزّة، الذي يحتضن جزءًا من عائلته وجزءًا كبيرًا من أعماله الفنية التي هي زبدة مسيرته التشكيلية، وهي بالنسبة إلى المبدع مثل الأبناء، فَقْدُها يوازي فقد الأبناء. وبالنسبة إلينا نحن المتلقين، يعتبر فقْد هذه الأعمال خسارة كبيرة لا يمكن استعادتها، لأنّ أعماله الفنية تمثل سيرة حياة غزّة والغزاويين من الستينيات إلى اليوم، بكلّ ما يحمله معنى الحياة عند الفلسطيني من معاناة متعدّدة الأبعاد، جعلت حياته مستحيلة لولا إرادة الحياة التي يمتلكها، بناءً على إيمانه بأنّه صاحب الحق الذي لا يحتاج إلى دليل.


(٢)
فَقْد فتحي غبن ولوحاته ذكرني بمثل أفريقي يقول: "موت شيخ يعني احتراق مكتبة". وفي حالة التشكيلي فتحي غبن، نحن في قلب المثل، حيث فقدنا الإنسان، وفقدنا كلّ حكايات غزّة المرسومة بأنامله. إنّ فقدان هذه اللوحات يعني أيضًا، فَقْد صور ووجوه وأمكنة وتفاصيل حيّة طازجة، ووجود هذه اللوحات، كان يمكن أن يكون إضافة نوعية للمدوّنة الثقافية الفلسطينية وورقة أخرى توثق السردية الفلسطينية، العصية على النسيان لأنّ أصواتها كثيرة ومتعدّدة وعالية.


(٣)
حكاية فتحي غبن واحدة من الحكايات التي يحملها كلّ فلسطيني، وهي حكايات جديرة بالتسجيل والبقاء، حكايات تعكس معاناة طويلة منذ نشأة فكرة تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين وبداية الهجرة اليهودية. وهو ما شكّل خطرًا دائمًا على الفلسطيني، جعله كائنًا غير مطمئن، لا يعرف مصيره ومصير عائلته وقريته وأرضه. هذا المصير الذي كشف عنه التاريخ المعاصر، حيث تعدّدت وتنوّعت أشكال المعاناة على مدى أكثر من قرن، من الاستيلاء على الأراضي والطرد والتهجير والقتل والسجن إلى التمييز العنصري والمطاردة في كلّ مكان، كما في كلّ مرحلة، حيث تشتدّ وتتنوّع أشكال التنكيل إلى أن وصلنا أخيرًا إلى ما تعيشه غزّة من تنكيل جمّع فيه معادو الإنسانية كلّ أشكال القمع الفردية والجماعية ضدّ شعب واحد.