على جناح أبي الطيب (1)

13 يناير 2021
+ الخط -

امتدحت العرب سرعة البديهة، وخلعت على صاحبها عددًا من الألقاب والمفردات المعبّرة، فاللوذعي، الألمعي، النجيب، اللبيب، الكيِّس، الفهيم والمتوقّد كلها تشير للرجل الذكي، الذي يقرأ الأمور ويستدل من الموجز على التفاصيل، وقد امتدح أبو نواس نفسه بقوله (وإني لطرف العين بالعين زاجرٌ/ وقد كدتُ لا يخفى عليَّ ضمير).

وإن عرَّفوا البلاغة بأنها اللمحة الدالة؛ فإن سرعة البديهة جزء رصين في التواصل بين الناس، ولها في نفوس أهل الأدب والفِكر ركنٌ ركين. لعلك جربت يومًا أن تحكي قولًا طريفًا، أو نكتة ما، وتكاد تسقط على قفاك من الضحك، ويشاركك الحضور في التفاعل ذاته، وإذا بأحدهم يقول بملء فيه: لم أفهم النكتة! حينها قد يبادر بعض الجلوس بجملة "النّكتةُ لا تُشرح".

وعندما يتطوع أحدهم ويفك لصاحبنا طلاسم النكتة وفق ظنه، إما أن يبدو أكثر تجهُّمًا، أو أن يتحلل من استغرابه وتنفرج شفتاه ولو قليلًا. كثيرون منا عاينوا هذا الموقف، ولربما أحالوا عدم فهم المخاطب للنكتة أو "الإفيه" أو المصطلح لجملة من الاعتبارات، أو لأنه "مش متابع"، لكن ماذا لو كان الأمر أبعد من ذلك بكثير؟

سرعة البديهة من الفراسة، يستطيع بعضهم أن يفهم الأمر الخفي بمجرد لمحة تعرض في كلام أو حال، وقد تنقذ هذه اللمحة المرء من ورطة، أو تقدم له فرصة على طبق من ذهب

 

لنطير سريعًا إلى شقنْد (بالشين المعجمة) - وهي قرية مطلة على نهر قرطبة، مجاورةٌ لها من الجنوب - وندخل مجلس الرئيس الفقيه أبي بكر بن زهر، المكان عامر بالزوار من الشرق والغرب، يتجاذب كثيرون أطراف الحديث، وهذا رجلٌ خراساني يتبارى الناس للسلام عليه، ويعلمون قدر إجلال ابن زهر له؛ فيتقربون إلى ابن زهر - ويحيطونه إحاطة الهالة بالقمر، والسوار بالمعصم - بحب هذا الرجل، ولو على سبيل التطبيل!

قريبًا من ابن زهر، يجلس الخراساني إلى جوار أبي الوليد إسماعيل الشقندي، رجل يعشق المقالب ولو قُدِّر له أن يقدّم برنامجًا تلفزيونيًّا لاختار "الشقندي مجنون رسمي"، ومن دون مقدمات يباغت الخراساني بسؤال له ملابسات: يا خراسانيّ! ماذا تقول في علماء الأندلس وشعرائهم وكتّابهم؟ نظر المسؤول إلى السائل، وقال كلمة واحدة "كبّرتُ"، وسكت.

استبرد الشقندي الجواب، ولعلّه سبّ الخراساني ولعن سلسفيله، ولم يغب المشهد عن ناظري ابن زهر، فتنحنح وقام ليجلس بينهما وهو يسأل الشقندي: أقرأت ديوان المتنبي؟ قال: وأحفظه جميعه! قال: فلِم استبردتَ الجواب، على نفسك إذن فلتُنكر، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهِم، ألم تسمع أبا الطيب يقول (كبَّرتُ حولَ ديارِهم لمَّا بدت/ منها الشُّمُوسُ وليس فيها المشرقُ).

ليت الأرض تنشق وتبلعني! سامحني يا خراساني، اللي ما يعرفك يجهلك، واللي ما يعرف الصقر يشويه، أنا آسف! والله لقد كبُرت في عيني بقدر ما صغرتُ نفسي عندي حين لم أفهم نبل مقصدك. ظل الشقندي يتأسف ويعتذر، ولو أسعفته بديهته لاحتفل أولًا بتوقّد ذهنه، وثانيًا بروعة الجواب وحسن الرد، وثالثًا بالمكانة التي يوليها هذا الخراساني لعلماء الأندلس وشعرائهم وكتّابهم.

في "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا"، يقول الشهاب الخفاجي تعليقًا على هذه القصة "هكذا فلتكن محاورة الأدباء"، يريد أن الحديث معهم وإليهم يحتاج إلى الإلماح والإلماع دون التصريح والشرح المطوّل، وهذا ما يميز أهل الاختصاص عن غيرهم، وإلا فما الفرق بين المتبحّر في فن من الفنون وغيره.

وردت القصة ذاتها في عدد من المصادر، ذكر أحدها على خلاف البقية أن السائل يدعى محمد بن حزم الحافظ، بينما الشقندي مثبتٌ في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري التلمساني، و"نفحة الريحانة ورشحة طلال الحانة" للمحبي، و"سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر" لابن معصوم الحسني.

وسرعة البديهة من الفراسة، يستطيع بعضهم أن يفهم الأمر الخفي بمجرد لمحة تعرض في كلام أو حال، وقد تنقذ هذه اللمحة المرء من ورطة، أو تقدم له فرصة على طبق من ذهب، وقبل أن نخوض في هذه وتلك فإن لأبي الطيب حقًا علينا نستوفيه أولًا، وكيف لا وقد أبدع ابن رشيق القيرواني - في سفره البديع "العمدة في محاسن الشعر وآدابه" - بجملته الخالدة: (ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس).

هذا البيت الذي ألمح إليه الخراساني، لم يتوسّع أبو العلاء المعري في كتابه "معجز أحمد" - ولا الواحدي في "شرح ديوان المتنبي" - في شرحه أو بيان جماله وجلاله، وهذا ما أغرى ابن الشجري (أبو السعادات) بالتطواف في رياضه والتعليق عليه والإطالة في حضرته.

ذهبنا إلى ابن الشجري في أماليه، وسمعناه يقول "هذا البيت مما أمرُّوه على أسماعهم إمرارًا؛ فلم يعطوه حقه من التفكُّر، ولم يولوه طرفًا من التأمّل". بهذه الديباجة يقدّم للبيت، يغمز في قناة من سبقوه، ويعتد بنفسه وهو يشرح ما غاب عنهم ويستدرك ما فاتهم. ينهل من الماء شيئًا قليلًا، يُطرِق قبل أن يعيد الدندنة على سبقه الأدبي "ذكرتُ هذا البيت لأنهم أضربوا عن الكلام فيه صفحًا، وفيه ما يقتضي أسئلة".

يتابع أبو السعادات "أولها: كيف قال بدت منها الشموس؛ فذكر المشبه به دون ذكر المشبّه وأسقطَ أداة التشبيه؟ والثاني: كيف جمع الشمس وليس في العالم إلا شمسٌ واحدة؟ وهل فعل ذلك أحدٌ من الشعراء قبله؟ والثالث: في أيّ شيءٍ شبّه الممدوحين بالشمس؟".

مقدمة قوية امتلك بها ابن الشجري ألباب الحضور قبل أسماعهم وأقلامهم، وطفق يجيب "والجواب أنه كان حق تشبيههم بالشمس أن يقال رجالٌ مثل الشمس، ولكنه - يقصد المتنبي - جاء به على حذف المشبّه وإسقاط أداة التشبيه؛ ليجعل كل واحدٍ منهم الشمسَ على الحقيقة، ثم جمع الشمس ليقابل جماعةً بجماعةٍ، وبالغ فيما أراده من المعنى بإخباره بأنه كبَّر الله تعالى متعجِّبًا من طلوع الشمس في غير جهة المشرق؛ لأن ديارهم كانت في جهة المغرب".

سكت أبو السعادات وهلّل الناس من حولنا وكبّروا، فاستمرأ احتفالهم بما فتّق من عيون الكلام، وارتأى إعمال القانون الشعبي "شوّق ولا تدوّق"؛ فاعتذر بموعدٍ مع طبيب الأسنان، ووعد بالإجابة عن السؤالين المتبقييْن، وأن يردّ على ابن الخشاب، وخرجنا من مجلسه نترقب الموعد اللاحق، وسننقل لكم اللقاء على الهواء مباشرة في حينه.