رائحة اليوم الأول

رائحة اليوم الأول

27 يناير 2021
+ الخط -

 

صورة من يناير 1

ذات صباح لم يكن عاديًا سبقته أيام طويلة دامت لسنين من الانتظار، كانت المدينة تمتلئ برائحة مختلفة. قال من حضر ذاك اليوم إنها كانت رائحة الأمل. قال آخرون إنها كانت رائحة الخوف، والخوف ليس نقيضًا للأمل، وإنما قد يكون مكملًا له في عدة سيناريوهات منها هذا السيناريو الطويل.

الرائحة المنبعثة من "فطاطري الحايس"، ذلك المحل الصغير في منطقة ناهيا الشعبية، الذي لن ينسى رائحته ولن ينساها أبدًا من تجمعوا عنده يوم الثلاثاء الساعة الحادية عشرة ظهرًا في ذلك اليوم البعيد. تم اختيار هذا المكان بدقة لبعده عن أعين الأمن وقربه من أماكن التظاهرات المُعلنة. رائحة الخوف المُربكة المُختلطة برائحة الفطائر كانت عنوان دقائق انتظار الهتاف الأول، خاصة مع وجود الشرطة السرية التي تشيع منها الرائحة ذاتها المُهيمنة على المكان.

خرج الهتاف الأول قويًا واضح المعالم، ببساطة "عيش حرية عدالة اجتماعية". العشرات المتناثرون في الحارات الضيقة تجمعوا وكأن مغناطيسًا أسطوريًا جمع شملهم فجأة، هتاف الفرد تحول لهتاف العشرات والمئات، قبل أن تقوم قوات الشرطة بإحاطة الجميع بكردون تلو كردون لم يصمد لدقائق، وتوجه الحشد الوليد المنتصر من منطقة ناهيا معززًا بمئات من سكان هذه المنطقة الشعبية في اتجاه مسجد مصطفى محمود، والذي كان بدوره عنوانًا لمظاهرة رئيسية حوصِرت سريعًا لعلم قوات الأمن بمكانها، لكن لم تكن تلك نهاية قصتهم.

أعاد المنهزمون ترتيب صفوفهم وجمع فلولهم وأعادوا الكرة. لم ينسوا من هتف في الحارات الضيقة ولم يغضوا الطرف عمّن أجبرهم على النكوص والفرار عرايا في شوارع المدينة

"يجيئون مُشتتين مثل رذاذ الغيث، ثم ما يلبثوا أن يتكاثفوا ويتلاحموا في خِضَّم عظيم يجيش ويزخر بحياة جديدة أرحب من حصيلة أجزائه"، كلمات كتبها الأديب السوداني الطيب الصالح في روايته ضو البيت، وكأنه رأى مشاهد تداخل الحشدين بطول الشارع. يحكي شهود عيان أنهم لا يستطيعون الجزم هل انكسر كردون قوات الأمن في مصطفى محمود بمجرد رؤيته للحشود المتوجهة إليه أم أن حماسة المحاصَرين داخل الكردون هي التي كسرته، لكن النتيجة كانت واحدة. انكسر الكردون والتحم الحشدان وكأنهما قضيا أيامًا طويلة في التدرب على ذلك.

شارع التحرير، جامعة الدول العربية. الطريق كان طويلًا إلى ميدان التحرير لكنه لم يكن ثقيلًا، كان حلمًا مليئًا برائحة الفرح والقلق في آنٍ واحد. كل مُتظاهر له قصة، شاب في منتصف الثلاثينيات لم يجد عملًا، آخر لم يعش كفاية ليرى رئيسًا آخر فآثر أن يبحث عن مُتنَفَّس، ورجلٌ خمسيني عانى الأمرَّين على يد الشرطة، وفي لحظة جماعية لا تتكرر دارت في هذه الشوارع أحاديث أخرى ورسائل.

"الشعب يريد إسقاط النظام"، هتفوا أفقيًا لقوات الأمن التي انكسرت كردوناتها أمامهم الواحدة تلو الأخرى. "انزلوا من بيوتكم عايزين نجيب حقوقكم"، هتفوا رأسيًا مناشدةً لمظلومين آخرين يشاهدون من شُرُفاتهم بتعجب هؤلاء المجانين الذين يجوبون الشوارع منادين بإسقاط الرجل الذي لم نعرف غيره رئيسًا لثلاثين عامًا كاملة!

آلاف من الشرفات استجابوا للمجانين، منهم الأب والأم والابن، بطول الشوارع حتى منطقة الأوبرا وكوبري قصر النيل. ميدان التحرير صار على مرمى البصر والقلب، وسرعان ما تحول المشي إلى هرولة، وبعد كوبري قصر النيل، بدأت الجموع في الجري وكأنها في حلم جريء، غير مصدقة، تريد الوصول إلى وسط الميدان قبل أن تستفيق.

رومانسية اللحظة دفعت الحشود بمجرد انكسار قوات الأمن داخل الميدان لإدراك أن حلمها الذي لم تصدقه منذ دقائق أصبح واقعًا، وأن خمسين ألف متظاهر على الأقل في أكبر حشد منذ عشرات السنوات تجمعوا في مكان واحد استجابة لدعوة غير منظمة للهتاف ضد رأس النظام "ارحل". مع مرور الساعات لم تتوقف الحناجر عن الهتافات التي عادت أفقية في وجه قوات الأمن، وبحلول الليل علم الجميع أن الاستيقاظ أتى وقته، تفرقوا مع قنابل الغاز والخرطوش ومئات الاعتقالات.

صورة من يناير 2

يوم الجمعة، ورغبة في تكرار الحلم، جاؤوا من المساجد والمقاهي والشوارع الضيقة كل منهم يصبو إلى من حضر اليوم الأول يوم بدر. أغلب من شاركوا عرفوا في قرارة أنفسهم منذ بدايته أن هذا يوم لا يقبل القسمة على اثنين، إما أن يكونوا وإما أن يكون، وقد كانوا. احترقت المدينة والمدن وعسكرها ومدرعاتهم، لم ينفعهم رصاصهم ولا بنادقهم.

"الشعب ركب"، قالها "عصام بيه"، أحد قادة قوات الأمن لغرفة العمليات في تسجيل تاريخي. في نهاية اليوم، لم يعد هناك سطوة لباشا أو لضابط أو رئيس. بناءٌ استغرق هؤلاء عشرات السنوات في إنشائه، سقط في ساعات. كانت مفاجأة للمنتصرين كما هي للمنهزمين.

تمر الأيام بسلاسة بعد هذا اليوم، يسقط مبارك، ويسقط حزبه كما سقط مبناه. عاش المنتصرون عامين ونصف في دولتهم الجديدة، وأعاد المنهزمون ترتيب صفوفهم وجمع فلولهم وأعادوا الكرة. لم ينسوا من هتف في الحارات الضيقة ولم يغضوا الطرف عمّن أجبرهم على النكوص والفرار عرايا في شوارع المدينة. وكأي مشهد انتقام سينمائي، فتحوا النار، قتلوا المئات، واعتقلوا وطاردوا البقية.

يوسف إدريس، في رائعته العسكري الأسود، استشرف المشهد منذ ستين عامًا وكتب: "وتشتت شمل الجيل، دخل السجن بعضه، والبعض اختفى وهرب في الأرياف والمدن البعيدة، وأحيانًا داخل نفسه. حفر حفرة عميقة في صدره، دفن فيها ثورته ومعتقداته وردم عليها، وأصبح همّه الوحيد أن يردم عليها أكثر وأكثر ويدَّعي عكس ما يعتقد". تفصيلة صغيرة أغفلها إدريس عامدًا إخفاء السر في تكرار اندلاع الثورات، أن الثورة فعل ناري في المقام الأول، وحرارة الجمر تظل موجودة لفترات طويلة مهما كان عمق الحفرة، ومهما استمر الردم، يظل القلب ينتظر الحريق الجديد، مدفوعًا بتلك الرائحة التي ما زالت تزوره في منامه، رائحة اليوم الأول.

دلالات