حافلات الأسرار الحميمة

حافلات الأسرار الحميمة

21 يناير 2024
+ الخط -

لا أحب الحافلات المتوجهة نحو أماكن العمل، والتي تقلّ بشراً متعبين، يتمنون لو بقوا في أسرتهم لوقت طويل، أقرأ في وجوههم تجهمهم من ثقل العيش وظلم مراقبي الدوام وشح الأجور وصرامة القوانين والتعليمات، وسوء العلاقات المهنية والاجتماعية في بيئة عمل أشبه ما يمكن وصفها بالعدائية.

لا أحب الحافلات المتوجهة نحو المشافي الكبيرة، يقبع البشر تائهين، مذعورين، وتنهبهم الأوجاع والشكوك، أكره حقائبهم المختلطة بروائح المرض وبالرجاء الحزين، أكره الأكياس البلاستيكية التي تحوي صوراً شعاعية ونتائج تحاليل مخبرية والكثير من عبوات الأدوية الفارغة والممتلئة، أخاف من مناماتهم الداكنة حتى لو كانت جديدة، ومن الأحذية الخفيفة وهي تختزن رعباً وشفقة، وآلاف الأسئلة العاجزة عن إيجاد أي إجابة عليها.

لا أحب الحافلات المتجهة نحو مركز المدينة والدوائر الرسمية لمتابعة معاملات مزمنة في تعقيدها، أو أنها تستجّر المزيد من الأوراق والأوامر المتوحشة بالمزيد من الالتزامات والرشى والطوابع، أكره المصاعد المتوقفة هناك بسبب غياب الكهرباء، أو بسبب تخصيص مصعد واحد للمدراء والمسؤولين الكبار، أكره الأدراج العالية والضيقة والمعتمة وغير النظيفة، والطاعنون في السن وفي آلام الظهر وأمراض القلب ولوعة الغياب والوحدة الجارحة، لا يصلون إلى مقصدهم إلا بعد التوقف في كل طابق لالتقاط الأنفاس، أو لتكرار الأسئلة كي يتأكدوا من صواب وجهتهم وانتهاء معاملاتهم بسلام وأمان. أخاف تنمر الموظفين عليهم، وأخاف سطوة التعليمات الجديدة التي صدرت بالأمس وباتت طعنة جديدة في مسار الخلاص.

أخاف تلك الحافلات التي يصير كل أب أو أم أو ابن وابنة أو أخت وأخ، مصدراً للغش او الريبة أو التنمر والتمييز، أخاف عليهم من أوهام العدالة والسعادة باللقاءات العاطفية

أكره الحافلات المتجهة نحو السجون ومراكز التوقيف، أخاف ذاك الاستسهال الفائق في رمي كل ما يدور في القلوب والأذهان على الأسماع وعلى المقاعد وعلى الريح العابرة في فضاء الحافلات بثقل غريب رغبة منهم في  اكتساب قبضة ضئيلة من التعاطف. أخاف تلك الحافلات التي يصير كل أب أو أم أو ابن وابنة أو أخت وأخ، مصدراً للغش أو الريبة أو التنمر والتمييز، أخاف عليهم من أوهام العدالة والسعادة باللقاءات العاطفية وحرارة الانتظار رغم كل الغياب واستطالاته القاسية. أخاف منهم حين يغرقون في تبرير كل الجرائم وكل التقصير وكل الظلم فقط لأنهم ضعفاء جدا، متخاذلون وهازئون وفاقدون للقوة أو الثقة، وحتى العاطفة، أخاف عليهم حين يفرطون في طلب الرجاء وفي المبالغة بإبداء لطف فائق يضطرون له ظنا أنهم سيعبرون بواسطته نحو مسالك أقل غلظة وظلما، لكنه لن يجدي أبدا، وسيغرقهم في ذل جديد.

 أحب الحافلات المتوجهة نحو البيوت، الممتلئة بأكياس الطعام مهما بدا رخيصاً ورديئاً، تفوح منها روائح الخبز الطازج رغم أنه استهلك ساعات من عمر صاحبه للحصول عليه.

أحب تلك الإغفاءات غير القلقة التي تلهم صاحبها الثقة العارمة بأنه لا بد سيستفيق عند موقف بيته، ربما لأن رائحة البيت هي من يوقظه، أو ربما هو على أمل بأن يد جار أو قريب ستهز كتفه ليستفيق على موقف حارته أو على ناصية شارع بيته وبأنه لن يضيع أبدا.

أحب القصص التي تدور بين ركابها ولو كانت عن المياه دائمة الانقطاع، ولو كانت تبادلاً للتعازي أوعن حكايات السفر الطويل والهجران، أحب أسئلة البعض: أنت ابن من؟ فقط لأن الدم يشي بأن الولد من الأقارب أو الجيران، أحب المعرفة الوثيقة بحكايات يراد لها أن تكون مخفية أو غائمة، لكن الجميع يرددها بطريقته الخاصة، لا بل إن الجميع يفهم مقصده ويكمل من حيث انتهى في ذات السياق.

أحب التاريخ وهو يتحول لسلسلة طويلة من المواقف ومن الحكايات ومن الملامح والأسماء، أحب خيط الأمان الواثق وخيط الذاكرة حين ينتعش فيحمي جمار القلوب.

أحب الحافلات المتوجهة نحو البيوت فقط لأنها خالية من الخوف من الضياع، أحبها وهي تغرف من العاطفة وتنير بها القلوب المتعبة والمتشوقة للتضامن والألفة، أحب تلك الحافلات الحميمة، أعشق تلك الأسرار التي تصير شواهد حية على تفاصيل العيش المشترك.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.