جورج.. خبّاز المسرح وعجينته

جورج.. خبّاز المسرح وعجينته

09 يوليو 2023
+ الخط -

"نحن شعب عنّا طلب عالتشيبس أكثر من المسرح بكتير".

(جورج خباز)

من "ينقرش" التشيبس بدلاً من مسرحيات جورج خباز لن يستطيع فهم المجتمع اللبناني في أيّ وقت كان، وحتماً سيُصاب بالقرحة الفكرية.

يحضر طيف الرحباني، كما عادل إمام ودريد لحام، وأداء شارلي شابلن على مسرح خبّاز. مثلاً، فكرة المخرج السينمائي الفاشل والمنتج التجاري التي نراها في مسرحية خباز "بالكواليس" (2016)، قدمها الرحباني سابقاً في "شي فاشل" (1983). أما مسرحية "شو القضية" (2008)، فهي بمثابة نسخة للنصف الثاني من مسرحية "أنا وهو وهي" (1963) التي كانت أولى المسرحيات التي مثّل فيها عادل إمام، فضلاً عن حركات شارلي شابلن وأسلوب سيره. في مسرحية "البروفيسور" (2010)، أخذ خباز فكرة أغنية "كوباكابانا" في الأغنية الأساسية المحرّكة للعمل المسرحي. في مختلف مسرحياته، كانت قصص الحب محرّك العمل، وفيها تجد قضايا المجتمع والإنسان اللبناني.

إنّ جورج خبّاز ليس عنصراً فنياً أو مسرحياً منفرداً أو مقتطعاً من إطار "البازل"، بل هو (إن صح التعبير) لعبة "بازل" كاملة في قطعها الجزئية أو في هيكليتها الكلية. خبّاز خشبة مسرح متنقلة، يصيغ فناً شاملاً، انطلاقاً من اللغة، والحوار، والشخصيات، والديكور، والأغاني، وكلّ ما يتعلّق بالفنون السبعة عموماً.. حيث إنّ المسرح عند خبّاز ليس هو الفن الرابع في تصنيف الفنون، ولكنّه الفنون السبعة كلّها.

صحيح أنّه خباز المسرح وعجينته ولكن حتى المخبوزات يشوبها بعض من عيوب الخبّاز، سنعالج انطلاقاً من ذلك عجينة الخبّاز بصحيحها وعيوبها.

إنّ الخباز عالج بجرأة في مسرحياته موضوعات تمثّل تابوهات اجتماعية آنذاك، والبعض يعتبرها حتى الآن كذلك. فعلى سبيل المثال عالج العلمانية بوصفها الخلطة السحرية لخلاص لبنان، إذ إنّه يتألف من ثماني عشرة طائفة، فلا يمكن تطبيق ثماني عشرة شريعة أو دستوراً على بلد واحد، لذلك نادى بالعلمانية، لأنّها الإطار الأسلم للحكم في لبنان، تحت سيادة الإنسانية ومبدأ الاهتمام بالعنصر البشري الحرّ.

أيضاً عالج سرديات الذكورية بأسلوب ساخر، موضحاً أنّنا لم نختر جنسنا من حيث الجندر، وبناءً على ذلك كلّ إنسان مفوّض تلقائياً بالقيام بمهماته الاجتماعية، بعيداً عن تصنيف جندري، يلبسنا إياه المجتمع بصفة إسقاطية تخنقنا وتجبرنا على قياسات محددة... وما يدعو إليه هنا، هو الالتزام بالراحة مع الجندر الفطري، دون ضغوط اجتماعية من هنا وهناك.

أيضاً شغلت فكره، وبوضوح، مسألة العدالة الاجتماعية، إذ دائماً ما كان يلبس ثوب الإنسان البسيط القلق على رزقه المثقل بواجبات مادية بغنى عنها، بالإضافة إلى المقاربة بين البساطة وبين الرفاهية. هنا "الخبّاز" لم يشأ أن يتبنى بتحيّز اتجاهات الرأسمالية أو الاشتراكية باتخاذ أحد منها ثقافة للعمل المسرحي، بل وضع الثقافتين معاً أمام بعضها البعض ليتجلّى للمتلقي ما يناسبه، مع ميله المضمر إلى الاشتراكية. ولكنّه قرّر أن يترك الخيار والحرية للمشاهدين في الليبرالية المسرحية، إذ إنّ نظام لبنان السياسي هو ليبرالي في الأساس، فضلاً أنّ الحضور من الطبقة المتوسطة آنذاك.

الخباز عالج بجرأة في مسرحياته موضوعات تمثّل تابوهات اجتماعية آنذاك، والبعض يعتبرها حتى الآن كذلك

بالإضافة إلى ذلك أقلقه المصير، إذ دائماً ما عالج موضوعات الحياة والموت، وما بينهما من أسرة، وزواج، وتناسل.. حيث إنّ الحياة نحياها ولكن لم نتخذ موقعنا الوجودي فيها، ظاهراً غضبه أو استياءه الميتافزيقي حيال الحياة والموت على حدّ سواء. فبالنسبة له يعود الموت ليخطف حياتنا وما حيينا لأجله، فيدين نتيجة ذلك ليس فقط الحضارة والدمار، ولكن فكرة الخلق، متبنياً موقفاً عدمياً حيال المصير بطريقة أو بأخرى.

مسألة الله عند "الخبّاز" ليست رمادية أو ضبابية كما تبدو في أعماله المسرحية، بل هو موقف قصدي يدلّ على تحييد الله عن عالمنا، إذ يعتبر أنّ الله موجود بالفعل لا خلاف على ذلك، ولكنّه صامت لا يتدخل، مشيراً بذلك إلى أنّ الله صناعة فردية، أي من ذات الإنسان نفسه، ولا يشترط بالضرورة وجوده خارج ذواتنا.. كما يعتقد إذا كان الربّ موجوداً ولا يتدخل فلا داعي لوجوده، متبنيّاً بذلك موقفاً عدمياً حيال القدر وتبعاته.

هناك تحيّز أظهره "الخبّاز" بوضوح على خشبة المسرح في أكثر من مسرحية، وهو قضية "الاحتلال التركي"، محمّلاً إياه التقسيمات الإدارية والجغرافية للبنان، متجاهلاً أو متناسياً في المقابل قضية "الاحتلال الفرنسي"، فهما وجهان لعملة واحدة؛ تدخل أراضي غير أراضيها ولا تشيع فيها الرضا والسرور.

من حيث الأداء، كان "الخبّاز" أنانياً بعض الشيء، إذ إنّ كلّ الحوار الكوميدي لا يأتي إلا على شخصيته ولسانه، مع العلم أنّ الشخصيات حوله ليست كوميدية بالمطلق، ولكن تدعم بطريقة ما حواره الكوميدي وتفرّده به، ما قد يثير في المشاهد السأم أحياناً.

أيضاً برز في الأداء الأسلوب الجنساني، ليس من محور موضوعاتي، بل من محور الأداء الذي يعبّر فيه عن حرية المسرح، فالمسرح دون إيحاءات جنسية يفقد سلطته المتمردة والصريحة، فيغدو مدرسة تقليدية متزمتة.

بالإضافة إلى ذلك برع "الخبّاز" في قولبة اللغة بالجناس اللغوي، واللعب على المبنى والمعنى على حدّ سواء، دون أن يتبنى نظرية لغوية نقدية من حيث تفضيل المبنى على المعنى، أو العكس، كما في الشكلانية الروسية اللغوية التي تُعنى بالموضوع هذا. كانت اللغة تحسيناً بديعاً لخدمة القضية المعالجة في المسرح دون مبالغة في أركانها وعناصرها واتجاهاتها.

أمّا بالنسبة للأغاني حقيقةً فهي أفكار مغنّاة، وليست لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالقصيدة الشعرية أو الغنائية، أفكار تُغنّى، تكسر روتين المسرح، وتعزّز تثبيت سيناريو المسرحية في الأذهان.

وقع "الخبّاز" في تكرار "آفاياته" اللغوية والإيمائية ما وضعه على خشبة خبز "كليشة"، صارت مسرحياته مكرّرة من حيث الموضوعات والتأدية، فمن يشاهد على الأقل ثلاث من مسرحياته يفهم التنميط المسرحي الذي سقط فيه "الخبّاز".

أظهر "الخبّاز" في أدائه تحكّماً بارعاً في جسده، متماثلاً بلا وعي منه مع شارلي شابلن فغدا هو ذاته، ولكن بنسخته العربية "شابلن العرب"، على الرغم من إنكاره لذلك مراراً وتكراراً، ولكن القرار ليس له، بل على وجه الدقة للمتلقي والناقد. ما أكسبه بذلك ابتكار الجمع بين الشرقي والغربي، ليكون العمل متجانساً لا متناقضاً، خفيفاً مرحاً دون تثاقل أو تشويش يعوق الرسالة الجمالية للمتلقي.

إنّ أعمال الخبّاز عموماً كوميدية تخرج ضحكات عفوية وآنية، يتركها المشاهدون في القاعة عند خروجهم ليعودوا إلى مشاكلهم الروتينية. حيث يربط بين ما شاهدوه في الداخل وما يواجهونه يومياً في الخارج بطريقة استعراضية، ويردّد ما يقوله الناس يومياً، أو ما يقرأه في الأدب والفلسفة، أو يعيد إنتاج ما سبقه إليه الآخرون من طيف المسرحيين العرب والأجانب، ولكن بأسلوب خاص يدمج بين الشرق والغرب.. لكنّه لا يشرح أسباب وسرديات النتائج؛ يكتفي فقط بالتوصيف الظاهراتي للأمور، وكأنّه يفسّر المجتمع اللبناني، بناءً على المدرسة الظاهراتية في الفلسفة. أن يتعدّى تقييم أعماله خانة الكوميديا، بوصفها رائدة وعبقرية، فهذه مسؤولية تقع على قائلها وعلى الخبّاز إثبات ذلك.

وباختصار يريد خبّاز البحث عن الإنسان الحقيقي فينا لنبني وطناً. في كل مسرحية من مسرحياته يحزن شبيه تشارلي شابلن مرة أخرى، فيغنّي في مسرحية "هللأ وقتا" (2007): "قولك رح تاخدنا الريح/ ما بيكفّي للي راحوا/ سبق وشربنا الكاس وبكينا عل المقابر/ ما اشتقنا ع خطوط التّماس/ ولا اشتقنا عالمعابر/ حاج يضحكوا عل الناس/ للي بيحكوا عل المنابر".  وفي مسرحية "مش مختلفين" (2013): "ما نقّيت اسمي شو/ ما نقّيت شكلي كيف/ عادي ناصح والله ضعيف/ ما نقّيت أهلي مين/ ولا المذهب ولا الدين/ ما نقّينا نحنا مين/ ع شو دخلك مختلفين". ويحرّف في مسرحية "ناطرينو" (2014) النشيد الوطني اللبناني: "كلنا للوطن كلنا للعلم" فيغنّي: "كلنا عل الوطن كل واحد عندو علم/ كيف إلكن عين بهل الزمن/ تعيّشوا الناس بالألم".

إنّ مسرح الخبّاز كان مسرحاً واقعياً نابعاً من المجتمع ويصبّ إليه، عكف بدقة على تجسيد معاناة الأطر الإنسانية عامة، مع حفاظه على الموقع الوجودي للفرد اللبناني، فقد طبّق المسرح الوجودي الغربي على المسرح اللبناني ليغدو المسرح اللبناني الوجودي الذي يحاكي الواقع للإنسان الفرد اللبناني. ولكن مشكلة الخبّاز أنّه استنزف نفسه في المسرح "مياتو خلصو" رصيده الآن في الدراما أعلى مع فرص أفضل، وخاصة أنّ كل فنان إذا استنزف نفسه يكرّر بلا داع أو هدف.. فالخميرة المنتجة لعجينة الخبّاز اليوم ستكون على صاج الدراما.

مصطفى أمين
مصطفى أمين
كاتب وشاعر من لبنان، حاصل على بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية. مهتمّ بالفكر والأدب والفنون والمسرح.