الهَمْدَاني... لسان اليمن أم عقله؟

الهَمْدَاني... لسان اليمن أم عقله؟

13 يناير 2023
+ الخط -

يُعتبر عالِم الجغرافيا والأنساب اليمني، الحسن بن أحمد بن يعقوب الهَمْدَاني (280هـ/893م – 334هـ/945م)، أحد عظماء اليمن في كلّ عصورها، حتى أنه لقّب نفسه "لسان اليمن"، وقيل إنّ قومه من أطلقوا عليه هذا اللقب. وأيّاً كان الأمر، فهو بحق لسان اليمن؛ حيث عبّر عن حضارة اليمن وعصره في موسوعته "الإكليل" بأجزائها العشرة، مدوّناً أنساب القبائل اليمنية، بشكل لم يبلغه غيره من النّسّابين، وكذا في الآثار القديمة من قصور وحصون وغيرها، ومثلها الكتابات القديمة بخط المسند الحميري، ونقوش الأحجار، لكن للأسف لم يصلنا من هذا الكتاب الثمين إلا أربعة أجزاء فقط.

ويعلو شأن الهَمْدَاني في كتابه "صفة جزيرة العرب"، وهو من أهم المصادر الجغرافية في التعريف بجزيرة العرب ومواضعها، ولا سيما بلاد اليمن التي جال بها الهَمْدَاني وزار مواضعها بنفسه، ولو أنه "وصَفَ جزيرة العرب وصْفَ عالم اللغة"، كما يقول آدم متز في كتابه "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري".

أما كتابه "الجوهرتين العتيقتين المائعتين الصفراء والبيضاء"، فيتضمن دراسة تفصيلية عن الذهب والفضة، من حيث عملية استخراج الذهب والفضة وتنقيتهما من الشوائب، وشرح خطوات هذه العملية من بداية الحصول على الخام حتى يصب في قوالبه خالصاً، ثم وضّح كيفية استخدام الذهب والفضة في صناعة الحلى، وترصيع التيجان، وتزيين صفحات القرآن الكريم، وغيرها، وقد أعاد تحقيق هذا الكتاب الأستاذ الدكتور، أحمد فؤاد باشا، أستاذ الفيزياء ووكيل كلية العلوم بجامعة القاهرة. وعن الهَمْدَاني يقول: "إننا نميل إلى أن نلقّبه ليس فقط بلسان اليمن، بل بعقل اليمن أيضاً".

ويبدو أنّ عقل اليمن تطلّع إلى أبعد من جوف الأرض في كتابه "سرائر الحكمة"، الذي "غرضه التعريف بعلم هيئة الأفلاك، ومقادير حركات الكواكب، وتبيين علم أحكام النجوم، واستيفاء ضروبه، واستيعاب أقسامه"، كما عرّف به المؤرخ صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم". 

يعلو شأن الهَمْدَاني في كتابه "صفة جزيرة العرب"، وهو من أهم المصادر الجغرافية في التعريف بجزيرة العرب ومواضعها

يتكوّن الكتاب من ثلاثين مقالة، لم يصل منها سوى المقالة العاشرة؛ والتي حققها القاضي محمد بن علي الأكوع، وتكمن أهميتها في أنّ الهَمْدَاني أرّخ فيها لمولده بالتوقيت الدقيق بقوله: "فمن ذلك أنّا اختبرناه ببعض التيسيرات المشهورة الفروع وعايناه ولم نرجم بالغيب، ولم نتبع به التعليل، لمولود [يشير لنفسه] في الإقليم الأول [يعني اليمن]، في المدينة التي عرضها 14/30 [يعني مدينة صنعاء]، وظل رأس الحمل بها 3/6 أصابع ودقائق، وارتفاعه عليها 75/30، وكان ذلك يوم الأربعاء 19 من صفر سنة 280هـ لعشر ساعات مستوية من النهار، يكون الطالع من الميزان أحد عشر جزءا ونصف بالتقريب".

وللهمْدَاني كتب أخرى لم تصلنا، منها كتاب "القوى" في الطب، وكتاب "اليعسوب" في فقه الصيد وحلاله وحرامه والأثر الوارد فيه، وكيفية الصيد، وعمل العرب فيه، وما قيل فيه من الشِعر، وكتاب "الطالع والمطارح" الذي فيه زيِجه (الزّيِج: كتاب يُحسَب فيه سَيْر الكواكب، وتُسْتَخرَج التَّقويمات)، وكان اعتماد أهل اليمن عليه، وديوان شعر في ستة أجزاء وغيرها.

وبمناسبة لقب لسان اليمن، فقد كان الهَمْدَاني شاعراً مبدعاً يشهد بذلك ما ضمّن من شعره في كتبه السالفة الذكر، إلى جانب قصيدته "الدامغة" التي وصلتنا مع شرحها، وهي قصيدة طويلة في قرابة ستمئة بيت في الفخر بقحطان، ومطلعها:

أَلا يَا دَارُ لَوْلاَ تَنْطِقِيْنَا 

فَإِنَّا سَائِلُونَ ومُخْبِرُونَا

وقد نظمها الهَمْدَاني نقضاً لقصيدة الكُمَيْت بن زيْد الأسَدي الموسومة بالمُذهبة، والتي هجا فيها كلّ أحياء اليمن، ومطلعها:

أَلا حُيِّيتِ عَنَّا يَا مَدِينا

وَهَلْ بأْسٌ بِقَوْلِ مُسَلِّمِينا؟

بسبب قصيدته "الدامغة" ناصبت السلطة الحاكمة في صنعاء؛ آنذاك، العداء للهمْدَاني، إذ كانت متعصّبة للعدنانية على القحطانية؛ لذا سُجن الهَمْداني مرتين، الأولى في صعدة لعشرة أيام سنة 315هـ/927م، والثانية في صنعاء من سنة 319هـ/931م إلى سنة 321هـ/933م، ولما أُطلق سراحه انتقل إلى رَيْدَة من بلاد قاع البون، حيث استقر هناك، متفرّغاً للتأليف، حتى وفاته. 

بسبب قصيدته "الدامغة" ناصبت السلطة الحاكمة في صنعاء الهمْدَاني العداء، لأنها كانت متعصّبة للعدنانية على القحطانية

وقد أثنى عليه المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي (ت: 812هـ) بقوله: "هو الأوحد في عصره، الفاضل على من سبقه، المبرّز على من لحقه، لم يولد في اليمن مثله: علماً، وفهماً، ولساناً، وشعراً، وروايةً، وذِكراً، وإحاطة بعلوم العرب: من النحو، واللغة، والغريب، والشعر، والأيام، والأنساب، والسِّيَر، والأخبار، والمناقب، والمثالب، مع علوم العجم: من النجوم، والمساحة، والهندسة، والاستنباطات الفلسفية، والأحكام الفلكية، وكان نادرةَ زمانهِ، رفيع الذكر، صاحب كتب جليلة، ومؤلفات جميلة؛ وهو وحيد اليمن الذي جمع معارف كل فنّ".

وقال عنه المؤرخ علي بن الحسن القفطي في كتابه "إنباه الرواة": "نادرة زمانه، وفاضل أوانه، الكبير القدر، الرفيع الذكر، صاحب الكتب الجليلة والمؤلفات الجميلة، لو قال قائل إنه لم تُخْرج اليمن مثله لم يَزلَّ، لأنّ المنجّم من أهلها لاحظ له في الطب، والطبيب لا يد له في الفقه، والفقيه لا يد له في علم العربية وأيام العرب وأنسابها وأشعارها، وهو قد جمع هذه الأنواع كلها وزاد عليها".

ختاماً هناك خلط بين قبيلة هَمْدَان، بسكون الميم، اليمنية، والتي يُنسب إليها الحسن بن أحمد الهَمْدَاني، وبين مدينة هَمَذان، بتحريك الميم يلحقها ذال الذي يكتب أحياناً دالا، الفارسية، لذا تجد الخلط بين اللقبين الهَمْدَاني والهَمَذَاني في كتابات المؤرخين.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري