الذلقراطية والثورة السورية

الذلقراطية والثورة السورية

27 ابريل 2021
+ الخط -

يمكن توصيف سياسة الذلقراطية العالمية بالفاشية الجديدة، فاشية تحالفية دولية تستفيد منها حكومات وأنظمة دول العالم الثالث كوسيلة إضافية لبقائها في الحكم جاثمة على أنفاس شعوبها، ولها مسلك وقواعد عدة - ومنها اختراع تنظيم القاعدة ومشتقاته - في تعميق صورتها المتوحشة رغم كل الكوارث التي تصنعها لشعبها، ومن تلك القواعد: (ركز على البعد الإعلامي والفني وتوسع في الاستثمار في هذا الجانب لما له من دور في تزييف الوعي)، وسنقتصر في مقالنا هذا على المسألة السورية نموذجاً لسياسة الذلقراطية العالمية، حيث تتشابه الوقائع وطريق تصنيع الإذعان والإذلال حتى وإن اختلفت الصور.

لقد نجح التدخل الخارجي في مجريات الأحداث السورية الراهنة في استثمار الجهل الشعبي الذي كرسه النظام الحاكم لعقود متعاقبة تحت شعارات التركيع والتجويع والتطويع أولاً، ومن ثم في هيمنة التقييمات الانتقاصية للهوية السورية التاريخية (دينياً وقومياً ومذهبياً) وتجلياتها الكبرى ثانياً.

فباتت التصورات العامة لكثير من المفردات مختلة ومختصرة: فالعربي صدامي بعثي، والكردي انفصالي ملحد، والعلوي كافر مجرم مستباح الدم، والسنة دواعش، والدروز حلفاء سلطة، والشيعة خناجر العلويين، والإسلام سبب هزيمة الثورة!!! وعمل على إثارة الأحقاد بشكل غير مسبوق في الساحة السورية.

إنني دمشقي كردي، وأمي عربية، وأدين بالإسلام ومذهبي سني، وعشت في دمشق في أحياء غير متجانسة، لم نشعر يوماً بأننا في حالة حرب معلنة أو مستترة مع من يغايرنا في الدين، لكن بفضل الكليشهات العالمية التي حُقنَت الساحة السورية بها، ولبروز أمراض الحرب، فقد كان الانقلاب على ذلك كله.

إن التشويهات وإساءات التمثيل التي ترتكب في تصوير الإعلام العالمي لمكونات سورية ولدين الإسلام لا تنمّ عن:

1. رغبة حقيقية في فهم ما هو قائم في سورية وما بواعثه.
2. التعرف إلى الشعب السوري.
3. وعي وظيفة الإسلام في سورية.
4. فهم مراحل الثورة السورية.
5. إرادة دولية جادة في سماع ورؤية ما ينبغي سماعه عن القضية السورية.

إن الصور التي تناقلها العالم عن الإسلام في سورية، بل عن سورية لا تختلف عن رواية النظام، وهي بالضبط ما توافق عليه النظام الوظيفي السوري مع الدول المشغلة منفذاً أجندة دولة الذلقراطية العالمية.

المصطلح "الإسلام"، كما يستخدم اليوم، يبدو کأنما يدل على شأن واحد بسيط، ولكنه في الحقيقة:
1. وهم في بعضه.
2. ودمغة أو اسم - تعميم إيديولوجي في بعضه الثاني.
3. وهو تحديد بسيط جداً لدين يعرف بالإسلام، في بعضها الثالث.

الإسلام جزء من الحل ولم يكن هو المشكلة.. المشكلة في الرأس السياسي ولا يزدهر دين في ظل نظام قمع وخوف.. حرروا الشعب من الخوف، ولتسقط الرايات المتطرفة

وبفضل الرسائل الإعلامية السلبية للدين وتوظيفه مع أو ضد النظام، تعمقت صور مقززة ونمطية للإسلام، فكل مسلم هو إرهابي مسلح ملتح متعصب مصمم على جلد وسبي النساء وقتل المخالف له في الدين.

المسلم باختصار مشروع داعشي.. وليقل القضاء ما يشاء فما قضيناه هو القضاء، واحذر من التمييز والتصنيف ما بين داعي الرفق والعنيف، فكل هؤلاء في الهوى سوا، من لم يمارس عنفه فقد نوى.

تطلق سياسة الذلقراطية الاستعبادية والاستبداية الأحكام التعسفية على دين يعد من الديانات الأم للبشرية، ولا تقوم أي مقابلة مباشرة، على أي درجة من الأهمية الحقة، بين الإسلام، في المصطلح الإعلامي الرائج، وبين الحياة الزاخرة بالتنوعات الهائلة التي يحفل بها عالم الإسلام على المستوى العالمي بسكانه الذين يربو عددهم على المليارين، وبحدوده الشاسعة التي تمتد وتشمل الملايين من الأميال المربعة في أفريقيا وآسيا بصورة رئيسية، وبالعشرات من مجتمعاته ودوله وتواريخه وجغرافياته وثقافاته المتميزة وعلى المستوى الداخلي المعقد في سورية والمكتنز بمدارس إسلامية قل نظيرها في العالم، ولكن الإسلام داخل سورية وضمن سياسة التخويف العالمية وبفضل التوظيف السياسي والعسكري والإعلامي بات يشكل فزاعة عالمية، وكاد هذان النشاطان معاً، أي التغطية والتعمية للإسلام وهما من أوليات سياسة دولة الذلقراطية العالمية، أن يصرفا النظر كلياً عن الاهتمام بالمأزق الذي وقع فيه الشعب السوري، تلك هي القضية العامة المعنية بالمعرفة والعيش في عالم قد أصبح بالغ التعقيد والتنوع، يستحيل حصره وفهمه في تعميمات فورية ميسورة.

ويمثل الإسلام حالة نموذجية. لقد سُوِّق الإسلام على أنه يُعَدّ على الدوام، إزعاجاً خطراً للغرب، من خلال علو رايات متطرفة قتلت من المسلمين أكثر من قتلها لغيرهم واستعلت وأهانت أبناء البلد في مضارعة تامة لما فعل النظام بأبناء الثورة، ووقف السوري قبل الآخرين معقود اللسان يتساءل:

من هؤلاء وما دينهم ومن صنعهم ومن مولهم؟ ومن وظفهم ليحاربوا الإسلام باسمه ويقاتلوا الكل، النظام والمعارضة وأنفسهم وصولاً إلى تصفية عالم دين كبير مثل الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي في المسجد في عمل إجرامي غير مسبوق في سورية؟!

لم يفكر صناع الذلقراطية العالمية بهذه الأسئلة المشروعة، لكنهم اتفقوا على أن تديين الثورة السورية هو المشكلة، وأن التطرف الإسلامي يعادي العالم، وعدوا الإسلام جزءاً من مشكلة سورية، وهو عدو يتهدد ويتوعد الجانب الغربي من العالم.

من المؤلم أن نبين أنه لا يمكن القول عن أي دين أو تجمعات ثقافية إنها تمثل تهديداً للحضارة الغربية، بمثل التوكيد الشديد نفسه الذي يُعتمد الآن عند الحديث عن الإسلام، وليس من قبيل الصدفة أن الاضطراب والعنف والقلاقل التي تحدث الآن في سورية والتي تتصل بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية أكثر مما تتصل اتصالاً أحادياً بالإسلام قد عرّت الحدود الضيقة للكليشيهات التي ترددها الذلقراطية العالمية، والتي اكتمل عملها بعيون وامضة بالشر ورغبة متقدة بالخبث في وأد أي مشترك بين السوريين بغية تخليق وتكوين ثقافة الإذعان من الجميع وسحب أي مقدس من حياتهم، حيث يتم:

1. نزع الإنسانية عن الجميع.
2. شيطنة قوميات السوريين.
3. استحمار واستعمار ديانات السوريين.

كل ذلك من أجل: 
• إظهار عبثية مطالب هذا الشعب.
• إمكانية المماطلة في إيجاد حل مقنع لثورة تستحق وبجدارة كل الاحترام.
• تمرير مشاريع إضعاف للمنطقة وتفتيت وتهديد لأمنها..

لقد بات غرز وغرس الأكاذيب على أنها حقيقة سياسة مرئية ليخلص العالم في صمته إلى أن الشعب السوري شرير وعنيف وقبل كل شيء جدير بكل ما يحصل به.

لقد استخدمت تعميمات لا عقلانية شاسعة في مداها للهجوم على الإسلام، وتم تفسير الوقائع السياسية والثقافية التي تخضع للحقائق إلى الافتراضات المسبقة غير الممتحنة، ونشرت طرائق التفكير التي تجمع بين العداوة والاختزال، واتُّخِذت المواقف على أساس المبالغة والتضخيم المقززين، والربط بين الإسلام واللاعقلانية، وأن الإسلام مدمن العنف المجاني حاقد.

آراء منزوعة من أي سياق وجودي وتاريخي، وتقدم الإسلام بصورة العنيف اللاعقلاني المجبر للناس على ارتكاب الجرائم ضد من ليس على شاكلتهم، هذه الدعاوى تحرم الإسلام صوت الاعتدال وتحوّل عمل النظام الممنوع إلى حق مشروع في قهر الناس وقتلهم.

وتبيح للإرادات الدولية الهجوم على المكونين الأساسيين لسورية، العرب والكورد، والديانة الرسمية الإسلام، والمذهب الغالب السني، وتفكيك معنى الأمة إلى هويات بدائية متناحرة، والدين إلى طوائف، والطائفة إلى حزب، والحزب إلى جهة الممول، والوطن إلى قوميات، والقومية إلى ديانة ضد الدين، وتختصر سياسة القومية بالحزب.

هذه الفجوات المتسعة ستنتج كراهية عميقة وربما عسيرة الضبط، ومع أنها قد لا تظهر في صورة حرب حقيقية إلا في بعض الأحيان، لكنها تنتج إرهاباً وجرحاً في الوجدان الداخلي ومواجهة مؤجلة.

لم يكن الإسلام حاضراً في الساحة السورية تاريخياً إلا صمام أمان ورعاية لكل المكونات، ولا ننكر وجود غش ثقافي ولا تنظيمات متطرفة، ولكن فارق كبير بين نص أصيل يعد كل حياة في الوجود غالية إلى أقصى ما يمكن توقعه، وإلى الحد الذي يجعلنا ندرك أن فناء حياة واحدة هو فناء للكون كله، "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، ليس هناك ما يبرر نهاية حياة مخلوق واحد ما "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا".

يعمق الإسلام مفهوم الدم الحرام ليجعله حقيقة كبرى وذوقاً فطریاً دائماً، وبالذات في اللحظات التي قد تقاتل فيها و تدافع فيها عن وجودك وحياتك وبقائك، "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، لكن الإسلام لا يقبل يوماً أن تنتزع حياة غيرك لتعيش وتدوم، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"..

انشغلت بعض النخب في خطاب دفاعي عن الإسلام ووقعوا في شغل أنفسهم بتبيان معنى الإسلام، بينما قام آخرون بمحاسبة الفقه ومنازلة الفقهاء والصدح بالتجديد، وهذا كله مفيد وضروري، لكنه غير كافٍ، فلا تجديد في ظل استبداد، والناس في زمن الحروب تبحث عن أمان وكرامة وليس عن تفسير ابن كثير ولا صحيح البخاري، وأزمتنا ليست في الإسلام ولا حضوره أو غيابه، بل في استدامة وجود المستبد الذي قتل أو قام برعاية قتلة البوطي وجلب إلى سورية الغزاة والبغاة والغلاة، مشكلتنا فيمن يحارب القومية باسمها ويقتل شعبه باسم جيش قومي، ويذل القوميات الأخرى، مشكلتنا في رأس سياسي فاسد يبحث عن كبش محرقة ولا ضير في أن يكون الدين والإنسان والعمران وخراب الأوطان فداء للأسد.

ليست مشكلتنا مع الدين ولا مع صوره حتى لو كان الشيخ حسون أو غيره، فالدين أحد من ضحايا مجرم كبير يعيش بالجهل والدم والظلم.

عندما يرتكب أحد ما خطأً ما، كل ما علينا هو محاسبته على أفعاله أمام القضاء من دون أي داع لاعتماد معاملة خاصة به متشددة أو متساهلة.

كما يجب علينا أن نتجنب التعميم وكيل التهم بحق الجماعة أو الدين الذي يدين به، وكل من يشارك في تحميل الدين، أي دين في سورية مسؤولية ما يحصل، هو شريك في قهر وقتل الشعب السوري، ولا تلوموا الشعب الذي على مدار الحرب في أراضيه، استخدمت روسيا أكثر من 600 قطعة سلاح جديدة، وباتت روسيا تستعمل الأمر كاستراتيجية جديدة لتسويق أسلحتها، وكعلامة تجارية لإقناع المشترين المحتملين. وجربت روسيا أنظمة جديدة للقتال البري وأنظمة دفاع جوي وطائرات بدون طيار ومركبات إزالة الألغام.

حتى قال سيرغي أ. كاراجانوف ، وهو عالم سياسي روسي ومستشار سابق للكرملين في شؤون السياسة الخارجية، إن أحد الأسباب الرئيسية للتدخل الروسي في سورية "كان تدريب قواتنا العسكرية وإظهار القوة الجديدة للقوات العسكرية الروسية، وبالتالي استعادة قدرتنا على الرد".

لا تلوموا شعب التجارب العسكرية الروسية وغيرها إذا صرخ بـ"يا الله مالنا غيرك يا الله"، كما لا بد أن نؤكد أن كل من يحمل الإسلام وزر المسألة السورية فهو لا يختلف عن داعش التي تصر على أنها الدولة الإسلامية الوحيدة.

الإسلام جزء من الحل، ولم يكن هو المشكلة.. المشكلة في الرأس السياسي ولا يزدهر دين في ظل نظام قمع وخوف.. حرروا الشعب من الخوف، ولتسقط الرايات المتطرفة.

دلالات