يحدث في إسبانيا

18 يونيو 2020
+ الخط -
رسمت اليوميةُ السويسرية (Luzerner Zeitung)، أخيراً، صورةً قاتمةً عن الملكية الإسبانية، في ضوء فضائح الفساد التي تلاحق الملك السابق، خوان كارلوس (82 عاماً)، وتلقي بثقلها على نجله الملك فيليبي السادس الذي يجد نفسه، اليوم، في موقف لا يحسد عليه.
حلقةُ فساد كبرى تمتد خيوطها من إسبانيا نحو سويسرا وبنما والسعودية وبريطانيا. وبدأت سنة 2008 حين تلقى خوان كارلوس مائة مليون دولار من العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، حُوِّلت إلى حسابٍ بنكي في سويسرا يعود إلى مؤسسة "لوكوم"، المسجلة باسمه في بنما، وذلك في مقابل تمكين شركات إسبانية من صفقة بناء خط سككي، للقطار فائق السرعة، يربط المدينة المنورة بمكة. وما كان ممكناً أن تأخذ القضية هذا المنعرج الذي بات يهدّد مستقبل الملكية الإسبانية، لولا دخول المدعي العام لدى المحكمة العليا على الخط، ولا سيما بعد الشهادة التي أدلت بها عشيقة ألمانية سابقة لخوان كارلوس، تتّهمه فيها باستغلال اسمها في هذه القضية وقضايا أخرى بغرض التملص من الضرائب.
وعلى الرغم من أن هناك مخرجاً قانونياً قد يُعفيه من المساءلة الجنائية، على اعتبار أن القضية تعود إلى ما قبل تنازله عن العرش (2014)، حيث كان لا يزال متمتعاً بالحصانة الدستورية، إلا أن ذلك لن يعفيه، بالتأكيد، من المساءلة الأخلاقية والمعنوية أمام الإسبان، الذين ظل طيف عريض منهم يذكُر له، إلى وقت قريب، دوره التاريخي في إنجاح التحوّل الديمقراطي الذي كان أحد مهندسيه، قبل أكثر من أربعة عقود.
ولعل ما يلفت الانتباه في هذه القضية، أنها فتحت ملف علاقة الملك السابق بالعائلة المالكة السعودية، على ما فيها من خبايا. وتعود جذور هذه العلاقة إلى أزمة النفط (1973)، حين طلب الجنرال فرانكو من خوان كارلوس التوسّط لدى حكام الرياض لأجل الحصول على النفط بسعر تفضيلي، وهو ما كان. وأدى العاهل السعودي الأسبق، فهد بن عبد العزيز، دوراً كبيراً في الانعراج بهذه العلاقة نحو مساراتٍ مثيرة. وقد سبق للصحافي الإسباني، خوسي غارثِيا أباد، أن سلط الضوء في كتابه ''عزلة الملك'' (2004) على بعض تفاصيل هذه العلاقة، منها، مثالاً لا حصراً، قصة المائة مليون دولار التي قدّمتها السعودية قرضاً لإسبانيا (1977) دون فوائد، لأجل دعم الملكية وتعزيز (الديمقراطية!)، وهو المبلغ الذي لم تسترده السعودية قَطّ، بعد أن آل إلى أحد حسابات خوان كارلوس البنكية.
من سوء حظ هذا الأخير، والعائلة المالكة، أن تتزامن فضيحة صفقة قطار الحرمين مع الارتجاج الذي أحدثته جائحة كورونا في إسبانيا على غير صعيد. ويفيد المشروع المعدَّل للميزانية بأن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض إلى 9,2% خلال السنة الجارية، ولن يستعيد الاقتصاد الإسباني عافيته إلا في عام 2022، كذلك سترتفع نسبة العجز العام إلى 10,1%، والمديونية إلى 115,5% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني ارتفاعاً هائلاً في الأعباء الاجتماعية للحكومة، يوازيه، بالضرورة، ضررٌ بالغٌ يلحق بالصورة الأخلاقية والرمزية للملكية. وقد كان مثيراً ما شهده مجلس النواب، أخيراً، في أثناء النقاش بشأن تمديد حالة الطوارئ، حين لم تتردد ميريا بِيّي، عضو حزب الوحدة الشعبية، اليساري المتطرّف (الكتالوني)، في نعت الملكية بأنها ''المؤسسة الفاسدة التي ظلت دائماً بعيدة عن المساءلة القضائية''، وانتقادِ نجله، الملك الحالي، في سعيه إلى جمع مساعداتٍ غذائية للأسر الأكثر تضرّراً من الجائحة لتلميع صورة الملكية، ما أثار اعتراض نواب اليمين، بطيْفيه المحافظ والمتطرّف، الذين اتهموا رئيس الحكومة، بيدرو سانشيث، بالسماح بإهانة الملك. وفي سياق آخر لا يقل دلالةً، احتلت الملكيةُ المرتبة الأخيرة في استطلاع رأيٍ أجرته القناة الإسبانية السادسة، قبل فترة، بشأن المؤسسات الأكثر احتراماً في البلاد، الأمر الذي يكشف حجم المأزق الذي تواجهه هذه المؤسسة، ويُربك حساباتها بعد أن تواترت، خلال الأعوام الأخيرة، فضائحُ فساد مدويةٌ تورّط فيها بعض أعضائها.
ويبدو أن التحوّلات التي شهدتها البلاد، نتيجة بروز أجيال جديدة لم تعايش تجربة التحوّل الديمقراطي التي ظلت الملكية توظفها كمورد شرعنةٍ، قد تدفع باتجاه إعادة النظر في موقعها الدستوري والسياسي.