ياسر برهامي وتجارة الحمام

ياسر برهامي وتجارة الحمام

02 يوليو 2020
+ الخط -

في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ظهرت فجأة في قرية صغيرة جدا في محافظة المنيا المصرية، اسمها الشيخ عبدالله، جماعة دينية. أول عمل قامت به، على سبيل إعادة السُّنة إلى مياهها الصافية، أن بدأت في هدْم مقام الشيخ عبدالله نفسه. ولولا تدخل الأمن والأهالي لكان قد تم هدم البناء كاملا، والوصول إلى المقام، لولا ستر الله ومساعدة الناس. الغريب أن هذه الجماعة انتقلت إلى الذوبان في كل الجماعات الأخرى. وبعضهم سافر، وبعضهم انقطع للتجارة في المواشي أو التوابل أو الحمام، وبعضهم مات، وبعضهم لا يقترب من المسجد حتى في صلاة الجُمع، وكانت تلك أول مرة نسمع فيها، ونحن على أعتاب الجامعة وقد طاولت شعورنا، عن ناسٍ اسمهم "سلفيون".

للأمانة، قضى كثيرون منهم سنوات طويلة في السجون ظلما، أو لأجل جريرة ما، وبعضهم تعامل مع الأمن سرا، حتى مرت السنوات، فإذا بنصف قرن قد طوى في طرفة عين، وإذا بنا نرى حزبا سلفيا اسمه حزب النور، بقيادة فكرية وميدانية لدكتور أطفال اسمه ياسر برهامي، بدأ مع الجماعة الإسلامية في بواكيرها في منتصف السبعينيات ثم انشق عليها. والطامة الكبرى أن نرى ممثلا عن حزب النور، وهو جلال مرّة، في انقلاب "30/6" في العام 2013 على الطاولة بجوار قائد الانقلاب وممثلي الكنيسة والأزهر وجماعة تمرّد والسيدة سكينة فؤاد عابرة الأجيال والحكومات أيضا.

لم أندهش بالطبع لموقف الحزب، خصوصا وأنني رأيت علاماتٍ تشير إلى أنه سيمثل عصبا "دينيا" ما لسلطة ما، تتخلق ضد الثورة، وهي عصبة 30/6 فيما بعد، لا سيما وأن الإخوة من سلفيي حزب النور خرجوا في "غزوات" عديدة شائكة تمثل ما تخفيه النوايا، مثل غزوة "أين اختفت أختنا كاميليا؟" وغزوة ذبح الإخوة الشيعة، أو قتل الشاب الذي كان بصحبة خطيبته، ثم الإعلان عن مجموعة ذاهبة لهدم ضريح الشهيد الحسين نفسه، وسواء أكانت الشائعة بإيعاز أمني، وهو المؤكد، أم لا، فإن ذلك الحزب يظل موضع ريبة عند أغلب العقلاء، وخصوصا بعد 30/6، وعلى رأس الحزب بالطبع ياسر برهامي الذي اعترف رسميا وقال: "نعم، كنا نبلغ الأمن عن أشياء تتعلق بالفسق والفجور في المجتمع السكندري من سنوات مضت". وإذا بالحزب أخيرا يدخل صندوق السياسة المعلن بكل وضوح، ويعلن تأييده الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، وهذا أمر عسكري، وهم بالطبع أهل دعوة، فمَن سحب أرجلهم إلى هذا المستنقع؟ صحيح مات سلفيون كثيرون في فض الاعتصام في ميدان رابعة، ولكن كل الخطوات الثابتة من الحزب فيما بعد أكدت أنهم مع النظام قلبا وقالبا وقتلا وتنكيلا، من دون أيٍّ من إشارات الاستنكار، أو حتى التلميح بأي رفضٍ أو أي شعور بالذنب، خصوصا أنهم يشعرون بالذنب من مجرّد ضريح، فما بالك بدم الإنسان؟

المثير في شجون نصف القرن من هدم الأضرحة (أمنيا كان أم بإيعاز) ليس ياسر برهامي، ولا وقوفه بجلبابه الأبيض القصير مع السلطة، ولا مناكفته في شم النسيم وكراهيته هذه العادة المصرية، ولا الدعوة إلى عدم المعايدة على الإخوة الأقباط، بل مقام الشيخ عبدالله نفسه، وهو على مقربةٍ من شيخ آخر، اسمه الشيخ تلاتة، وهي قرية صغيرة جدا، معظم أهلها من الإخوة الأقباط، وقد تخصصوا من سنوات في زراعة التوم، والآن هم من الأغنياء.

الغريب أن أهل الشيخ تلاتة لم يفكروا أبدا في هدم مقام الشيخ تلاتة، ولا جاء على خيالهم ذلك. تذكّرت هذا حينما رأيت إخوة من السلفيين في الشرق الليبي، بلحاهم الطويلة جدا، يحملون الأسلحة الثقيلة مع حفتر تمهيدا لدخول طرابلس من سنة، وإذا بحزب ياسر برهامي يعلن، هو الآخر، من قيادته في الإسكندرية، وقوفه مع حفتر ضد حكومة الوفاق في هذه الأيام. أعرف أن ياسر برهامي طبيب أطفال، وليس "مقاول هَدَد"، وأعرف أن أطباء الأطفال عادة يقومون بعمليات طهارة الأطفال في عياداتهم بدون أي حرج... أما لو ذهب السيد برهامي إلى الشيخ تلاتة، فلا بد أن يكون في معية الأمن، لأن معظم أحفاد أنصاره في الشيخ عبدالله يتاجرون الآن في الحمام، ولا يعرفون حزب النور أو الـ"الضلمة"، إلا في أيام حمل الكراتين والرقص في اللجان الانتخابية.