ولايات الموز الأميركية

ولايات الموز الأميركية

09 سبتمبر 2018
+ الخط -
لم يسبق لأميركا، لا في تاريخها الحديث ولا القديم، أن شهدت مثل هذا الانهيار داخل البيت الرئاسي، وخروج أصوات في السر والعلن تتكلم عن سلوك الرئيس من الداخل، وحالة التمرّد التي تسود بعض أروقة صنع القرار. كسرت أميركا - ترامب كل حدود التاريخ، ووضعت الولايات المتحدة على مشارف التحول إلى جمهورية موز، حيث الفوضى تعمّ مراكز صنع القرار، وتتسرّب يوماً بعد يوم إلى الشارع، وهو ما تعكسه حالات إطلاق النار التي تضاعفت، في الفترة الماضية، في أرجاء مدن أميركية عديدة.
لا يتعلق الأمر فقط بالمقال المنشور في صحيفة نيويورك تايمز، والذي كتبه أحد أركان الإدارة الأميركية من دون ذكر اسمه، ليتحدّث عن "المقاومة" التي يمارسها مسؤولون في حكومة ترامب ضد تهوّره وقراراته، والجهود التي تُبذل لمنع الرئاسة الأميركية من الانزلاق إلى مزيد من التدهور، أكثر من الذي تعيشه حالياًـ، والحديث المتزايد عن إمكان عزل الرئيس دونالد ترامب، وهو ما ذكره كاتب المقال، حين أشار إلى أن هذا الأمر تبادر إلى أذهان مسؤولين عديدين داخل الإدارة، غير أنهم صرفوا النظر عنه. لم يكشف المقال، على أهميته، جديداً في ما هو دائر في الولايات المتحدة، إذ إن كل ما كتب تم تداوله على شكل تسريباتٍ صحافية في الأشهر الأولى من حكم ترامب، حتى أنه تم نشره في مذكرات مسؤولين سابقين في الإدارة الحالية، وجدوا أنفسهم خارجها بفعل قرارات ترامب وسلوكه.
المهم في المقال أنه غير مسبوقٍ لجهة خروج مسؤولٍ لا يزال عاملاً في الإدارة الأميركية للحديث عما يحدث داخلها، وهو ما دفع ترامب إلى حافّة الجنون للبحث عن "الخائن" الذي يعلن ما لم يعد سرّاً، على الأقل، بالنسبة إلى المعسكر الكبير الذي يناهض ترامب، داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن الواضح أن شكوك الرئيس الأميركي لم توفّر أحداً، وهو ما تفضحه إعلانات التنصّل من المقال التي صدرت عن نائب الرئيس، مايك بينس، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، مؤكدين أن أياً منهما ليس كاتبه. النفي الذي صدر من هذين الشخصين تحديداً، وليس غيرهما، يوحي بأن علاقتهما مع ترامب أيضاً ليست على ما يرام، وأن محاولاتٍ صدرت منهما خلال الفترة الماضية للجم قرارات الرئيس المتهوّرة، بحسب وصف كاتب المقال في "نيويورك تايمز". مؤكد أن هذا السيناريو غير مستبعد، خصوصاً أن لترامب سوابق في صراعاته مع أفراد إدارته، وهو أقال عديدين منهم خلال الأشهر القليلة من إدارته، وفي مقدمتهم وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، والذي تم تسريب أنه وصف ترامب بالغباء. وعلى الرغم من محاولات تليرسون نفى ذلك لاحقاً، وأن علاقته مع ترامب جيدة، إلا أن مسار إخراجه من منصبه أكد عكس ذلك.
وبغض النظر عن مقال المسؤول المجهول في "نيويورك تايمز"، فإن شواهد كثيرة تؤكد وجود صراعات داخل الإدارة الأميركية بين سياسيين محنّكين، ولعل بينس في مقدمتهم، والرئيس الهاوي الذي دخل إلى البيت الأبيض في غفلة من الزمن، بالاعتماد على شعبويةٍ استقطبت أصوات اليمين الأميركي بشعارات "جعل أميركا عظيمة مجدّداً". ولكن من الواضح أن الشعار انقلب إلى نقيضه، والعظمة التي وعد بها ترامب باتت تتلخص في وضع الإدارة الأميركية الجديدة في مصافّ الأكثر فشلاً وانقساماً على مدار التاريخ الأميركي، إضافة إلى إخراج الولايات المتحدة من دائرة التأثير السياسي الخارجي والفعالية الداخلية، ووضعها في إطارٍ معزولٍ عن المحيطيْن، القريب والبعيد، وقرّبها من التحوّل إلى جمهورية موز، قد تكون الأعظم بينها، وهو ربما ما قصده ترامب من الأساس.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".