20 سبتمبر 2024
هل يتراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط؟
استدعى اقتحام متظاهرين عراقيين محسوبين على فصائل الحشد الشعبي، المقرّب من إيران، حرم السفارة الأميركية في بغداد، يوم الثلاثاء الماضي، نقاشاً أميركياً عمّا إذا كان النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط يشهد تراجعاً. وهذا النقاش ليس وليد الساعة، ولا حتى سنوات دونالد ترامب الثلاث في الرئاسة، بل إنه مثار نقاش منذ مرحلة ما بعد غزو إدارة جورج بوش الابن العراق، عام 2003، وتورّط الولايات المتحدة في حروبٍ طويلةٍ ومكلفة هناك. ثمَّ كانت سنوات إدارة باراك أوباما الثماني في الحكم، والتي سعت جاهدة إلى تقليل حجم التورّط الأميركي في المنطقة، ومحاولة التركيز على التهديد القادم من شرق آسيا، وتحديداً الصين الصاعدة، اقتصادياً وعسكرياً، ضمن ما عرف باستراتيجية "Pivot to Asia"، أو إعادة التمركز نحو آسيا.
وبالعودة إلى اقتحام مقر السفارة الأميركية ضمن سياق نقاش تراجع النفوذ الأميركي المفترض في الشرق الأوسط، فإن الأحداث كانت قد بدأت في 27 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، عندما استهدفت مليشيات عراقية قاعدة عسكرية أميركية بعشرات القذائف في كركوك شمال البلاد، تسببت في مقتل متعاقد مدني أميركي. وفي التاسع والعشرين من الشهر نفسه، أي بعد يومين من الهجوم، شنّت طائرات حربية أميركية ضربات جوية استهدفت معسكراتٍ في
كل من العراق وسورية تابعة لـ"كتائب حزب الله" العراقية المدعومة من إيران، أسفرت عن مقتل نحو ثلاثين شخصاً. وبعد يومين، اقتحم محتجّون عراقيون محسوبون على مليشيات الحشد الشعبي حرم السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء المحصّنة في بغداد، وأضرموا النيران في بعض مبانيها، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى تحميل إيران المسؤولية، بل هدّدها ترامب بالانتقام في حال تعرّض أميركي للأذى. ولم تكد تمضي ساعات على تهديد ترامب، حتى كان يتراجع عنه قائلاً: "أريد السلام وأحب السلام. ويجب أن ترغب إيران في السلام أكثر من أي شخص آخر".
هذا الموقف المتذبذب لترامب هو ما أعاد بعث النقاش أميركياً حول ما إذا كان النفوذ الأميركي قد تراجع فعلاً في الشرق الأوسط أم لا. يشير القائلون بفرضية تراجع النفوذ الأميركي شرق أوسطياً إلى جملة من المعطيات، وهي ليست حكراً على سنوات حكم إدارة ترامب وتقلباتها الفوضوية. مثلاً، بدأ النفوذ الإيراني في المنطقة في التصاعد والتمدّد في أوج التدخل العسكري الأميركي فيها زمن إدارة بوش الابن، إذ ترتب على غزو أفغانستان وإسقاط حكم حركة طالبان عام 2001، ثم غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003، تخليص إيران من نظامين تربطها بهما عداوة. ثمَّ كان لتفجر مقاومتين مسلحتين عنيفتين ضد الاحتلال الأميركي في كلا البلدين دور في استنزاف القوة الأميركية، وتشتيت تركيزها. بل كانت إيران الطرف الرئيس في تمويل وتخطيط الاستنزاف الذي تعرّضت له الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق، وانتهى الأمر بنفوذ إيراني في الأولى، وهيمنة على مفاصل الدولة في الثاني.
ومع وصوله إلى الحكم، وتوجّه إدارته المزدوج إلى التركيز على شرق آسيا، والتخفف من
أعباء الشرق الأوسط، عمل أوباما على تشديد الخناق على إيران اقتصادياً، لا بهدف إسقاط النظام، وإنما لإرغامها على التفاوض على برنامجها النووي في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وهو ما تمَّ فعلاً عام 2015. لم يتوقف أوباما عند ذلك الحد، بل عمل على إدماج إيران في المنطقة رغماً عن حلفاء بلاده في الخليج العربي وإسرائيل. ونتذكّر هنا تصريحاته لمجلة "ذا أتلانتيك"، في إبريل/ نيسان 2016، والتي دعا فيها السعودية إلى القبول باقتسام المنطقة مع إيران، على الرغم من أنها كانت تثير القلاقل فيها. ولكن أياً من ذلك لم يستفز أوباما، فكانت النتيجة أن أحكمت إيران سيطرتها على أربع عواصم عربية تحت ناظريْه، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ولم تتوقف ضبابية مقاربة إدارة أوباما لمنطقة الشرق الأوسط عند ذلك الحد، إذ سمح تردّدها في الموقف من النفوذ الإيراني، وعبثها بالورقة الطائفية في العراق، بانبعاث تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مناطق واسعة من العراق وسورية عام 2014. حصلا الأمر نفسه في الموقف من نظام بشار الأسد، فالتردّد والغموض في المقاربة نحوه سمح لروسيا أن تدخل المعادلة في سورية عسكرياً، والتحكّم في معطيات ساحتها.
ومع مجيئه إلى الحكم، أضاف ترامب إلى تردّد أوباما فوضى في المقاربات، وهو ما رأيناه في مواقف عدة، كإعلان الانسحاب من شمال سورية أواخر عام 2018، ثمَّ العودة عنه، ثمَّ كان
انسحاب جزئي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبعد ذلك عودة جزئية. ليس ذلك فحسب، فترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، ورفع حدّة الضغوط الاقتصادية عليها منذ منتصف العام الماضي، هو نفسُه من وقف متردّداً في الرد على اعتداءاتها على حرية الملاحة البحرية في الخليج العربي، وكلنا يذكر تراجعه المهين عن توجيه ضربةٍ انتقاميةٍ لإيران، في يونيو/ حزيران الماضي، بعد إسقاطها طائرة أميركية من دون طيار كانت تحلق فوق مضيق هرمز. بعد ذلك، كان الهجوم الإيراني على شركة النفط السعودية، أرامكو، في سبتمبر/ أيلول الماضي، والذي وقفت أمامه إدارة ترامب عاجزة، وهو ما عزّز الشكوك السعودية والخليجية أن الولايات المتحدة لم تعد ذلك الحليف الموثوق الذي يمكن الاطمئنان إليه. ولم يكد شهر واحد يمضي حتى كانت كل من السعودية والإمارات تفتحان أبواب عاصمتيهما للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في إشارةٍ فهمت على تنويع الحلفاء الأميركيين في المنطقة خريطة تحالفاتهم.
إذاً، ثمّة تراجعٌ أميركي حقيقي في منطقة الشرق الأوسط، ودلائله كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق، يمكن رصد تمدّد النفوذ الروسي في ليبيا، في ظل غموض أميركي. وهناك التمدّد التركي أيضاً في الخليج بعد أزمة حصار قطر عام 2017، ثمَّ في ليبيا اليوم. وهناك صراع النفوذ الروسي – التركي – الإسرائيلي – الإيراني – السعودي في المنطقة، في حين تكتفي الولايات المتحدة بالمراقبة. ولا ننسى هنا المناورات البحرية العسكرية المشتركة، قبل بضعة أيام، في خليج عُمان بين إيران وروسيا والصين، وهي منطقةٌ كانت، إلى زمن قريب، حكراً على نفوذ الأسطول الأميركي الخامس. ومع ذلك، ثمَّة من يرى أن تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ليس مردّه الإمكانات، حيث لا تزال الولايات المتحدة قادرةً عسكرياً واقتصادياً على استعادة نفوذها في الشرق الأوسط إن هي أرادت، وقواتها منتشرة في المنطقة، بل إنها تقوم بتعزيزها. ويرى خبراء إن تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة مردّه الحقيقي الإعياء منها ومن مشكلاتها، خصوصاً في العقدين الأخيرين، فضلاً عن غياب استراتيجية شاملة لها والإرادة اللازمة لإنفاذها، وهو ما قد يتطلّب حروباً إقليمية، على الغالب محدودة. المشكلة هنا أن الرأي العام الأميركي لا يبدو في وارد تقبل حروبٍ جديدة تستنزف البلاد اقتصادياً ومادياً، دع عنك أن الحسابات السياسية والحزبية حاضرةٌ في الحسابات الاستراتيجية، ومن ذلك أن هذه سنة انتخابات، وترامب يريد أن يكون الرئيس الذي أخرج أميركا من عقدين من الحروب، لا الرئيس الذي أطالها، أو افتعل أخرى جديدة.
هذا الموقف المتذبذب لترامب هو ما أعاد بعث النقاش أميركياً حول ما إذا كان النفوذ الأميركي قد تراجع فعلاً في الشرق الأوسط أم لا. يشير القائلون بفرضية تراجع النفوذ الأميركي شرق أوسطياً إلى جملة من المعطيات، وهي ليست حكراً على سنوات حكم إدارة ترامب وتقلباتها الفوضوية. مثلاً، بدأ النفوذ الإيراني في المنطقة في التصاعد والتمدّد في أوج التدخل العسكري الأميركي فيها زمن إدارة بوش الابن، إذ ترتب على غزو أفغانستان وإسقاط حكم حركة طالبان عام 2001، ثم غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003، تخليص إيران من نظامين تربطها بهما عداوة. ثمَّ كان لتفجر مقاومتين مسلحتين عنيفتين ضد الاحتلال الأميركي في كلا البلدين دور في استنزاف القوة الأميركية، وتشتيت تركيزها. بل كانت إيران الطرف الرئيس في تمويل وتخطيط الاستنزاف الذي تعرّضت له الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق، وانتهى الأمر بنفوذ إيراني في الأولى، وهيمنة على مفاصل الدولة في الثاني.
ومع وصوله إلى الحكم، وتوجّه إدارته المزدوج إلى التركيز على شرق آسيا، والتخفف من
ومع مجيئه إلى الحكم، أضاف ترامب إلى تردّد أوباما فوضى في المقاربات، وهو ما رأيناه في مواقف عدة، كإعلان الانسحاب من شمال سورية أواخر عام 2018، ثمَّ العودة عنه، ثمَّ كان
إذاً، ثمّة تراجعٌ أميركي حقيقي في منطقة الشرق الأوسط، ودلائله كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق، يمكن رصد تمدّد النفوذ الروسي في ليبيا، في ظل غموض أميركي. وهناك التمدّد التركي أيضاً في الخليج بعد أزمة حصار قطر عام 2017، ثمَّ في ليبيا اليوم. وهناك صراع النفوذ الروسي – التركي – الإسرائيلي – الإيراني – السعودي في المنطقة، في حين تكتفي الولايات المتحدة بالمراقبة. ولا ننسى هنا المناورات البحرية العسكرية المشتركة، قبل بضعة أيام، في خليج عُمان بين إيران وروسيا والصين، وهي منطقةٌ كانت، إلى زمن قريب، حكراً على نفوذ الأسطول الأميركي الخامس. ومع ذلك، ثمَّة من يرى أن تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ليس مردّه الإمكانات، حيث لا تزال الولايات المتحدة قادرةً عسكرياً واقتصادياً على استعادة نفوذها في الشرق الأوسط إن هي أرادت، وقواتها منتشرة في المنطقة، بل إنها تقوم بتعزيزها. ويرى خبراء إن تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة مردّه الحقيقي الإعياء منها ومن مشكلاتها، خصوصاً في العقدين الأخيرين، فضلاً عن غياب استراتيجية شاملة لها والإرادة اللازمة لإنفاذها، وهو ما قد يتطلّب حروباً إقليمية، على الغالب محدودة. المشكلة هنا أن الرأي العام الأميركي لا يبدو في وارد تقبل حروبٍ جديدة تستنزف البلاد اقتصادياً ومادياً، دع عنك أن الحسابات السياسية والحزبية حاضرةٌ في الحسابات الاستراتيجية، ومن ذلك أن هذه سنة انتخابات، وترامب يريد أن يكون الرئيس الذي أخرج أميركا من عقدين من الحروب، لا الرئيس الذي أطالها، أو افتعل أخرى جديدة.